باسم فرات يكتب : البوذية في اليابان
وصلت البوذية إلى اليابان في عام 538 أو 552 ميلادية، وهناك مَن يرى قبل هذا التاريخ قليلًا، عمومًا أن وصولها كان بعد مرور ألف عام على ظهورها أول مرة في الهند، وخمسمائة عام على دخولها الصين، وكان وصولها لليابان قد جاء عبر مملكة “كودارا” في جنوب كوريّا، إثر تحالفه مع حاكم “ياماتو” ولكي يترضاه ويكسب ودَّه أرسل إليه تمثالًا صغيرًا لبـوذا، وبعض النصوص (السوترات)، و كلمة “سوترا” سنسكريتية ومعناها تحديدًا “موعظة بوذية”، وكان من الطبيعي أن تدخل الصورة الصينية من البوذية، وهي بوذية “المهايانا”، حتى إن امتزجت بعض المدارس بتعاليم “الهنايانا”.
ومثل كل الأديان ينقسم الناس حولها بين مؤيدين ومعارضين، لكنها انتصرت وفي القَرنين التاليين ترَسّخَت، أي في عصر “نـارا” وأُسِّست لها ستُّ مدارس كُبرى في العاصمة “نـارا”. لم يرق لكهّان الشِّنتوية الأمر، وهذا طبيعي ففي الأديان جميعها نجد كهنة الدين القديم تعارض الدينَ الجديد وبشدة أحيانًا وهذه الشدّة تختلف بحسب ظروفها، وهذا ما حصل. وعندما انتشر الطاعون، وجد كهنة الشِّنتَوية ضالتهم فنسبوا ذلك إلى أن العبادة اتجهت إلى “كامي” أجنبي، وكان من نتائج هذا الاتهام، حرق المعابد البوذية، وتحطيم تماثيل بـوذا.
إن مشهد عنف الشِّنْتَوِيّة ضد الديانة الجديدة القادمة من وراء الحدود، تكرر بعد حوالي ألف سنة، ولكن هذه المرة عنف الديانة البوذية ضد الديانة المسيحية الوافدة الجديدة من وراء الحدود أيضًا، وقد عَرَضْتُ لعنف البوذية ضد المسيحية في أثناء حديثي عن رحلتَيّ إلى “ناغازاكي”، لكن من الإنصاف القول: إن البوذية أحدثت حركة ثقافية متقدمة بل ثورة في الفن والأدب والعمارة والموسيقى والسياسة.
لم تكن البوذية التي اعتنقها اليابانيون هي نفسها البوذية التي جاء بها بوذا، فمن خلال سيرة بوذا نجده شخصًا مهمومًا حزينًا، خَلَّفَ لنا عقيدة لا تخلو من التشاؤم واللا أدرية، وتزمّت واضح وغيرها من المميزات التي امتازت بها البوذية، بل جاءتها بوذية حتى لو أنكرت الآلهة لكنها لم تخرج من عباءة الهندوسية تمامًا، وتَزَيَّنَت بثقل التاريخ الثقافي والاجتماعي الصيني، من الكونفوشيوسية والطاوية، حتى بوذية “تشان” التي وصلت إلى الصين، حين وصلت إلى اليابان أصبحت “بوذية زن”.
إن بوذية “ماهايانا” وآلهتها الوديعة هي التي توغلت في اليابان، واحتفالاتها الدينية البهيجة، واعترافها ببوذيين منتظرين يخلصون البشر، وبخلود الروح الإنسانية، وتبث في النفوس بأسلوب لا يقاوم لفرط رقته، كل فضائل الورع والسلام والطاعة التي يمكن أن تصوغ الناس صياغة تجعلهم أكثر انصياعًا للحكومة. وراحت تفسح للمظلومين من الأمل والعزاء بما يجعلهم مخدّرين راضين قانعين بشظف عيشهم، وتخفف من وطأة الحياة الكادحة وما فيها من برود يشبه برود النثر وفتور العمل المكرور المعاد، بما تبثه في تلك الحياة من شعر متمثلة في الأساطير والصلاة، ومن مسرحية تتمثل في الاحتفالات البهيجة، وهيأت للناس سبيل الوحدة في الشعور والعقيدة، وهما شيئان طالما رحّب بهما الساسة، لأنهما أصل النظام الاجتماعي، ودعامة القوة القومية، بحسب صاحب قصة الحضارة، “وِل وَيريْل ديورانت”.
ولمرة أخرى أتطرق إلى العبقرية اليابانية في التقليد، إنها تضع بصمتها وتلبس كل مستورد ثوبًا يابانيًّا، حتى ليُخيّل إليك أن المستورد ما هو إلّا ابتكار ياباني أصيل، فهذه البوذية الدين المستورد، الذي تشرّب روح الشِّنْتَوية، وسقاها عبق الصين وهيمنتها الحضارية الكبيرة، فأثَّر وتأثّرَ، وجمع بين قلوب وعقول اليابانيين، ليكون هذا الطارئ الغريب بفضل العبقرية اليابانية دعامة كُبرى في تنامي الشعور القومي الياباني، ووحدة المصير المشترك، بعمقه الجغرافي والتاريخي والعقائدي (البوذي) والثقافي، وحين تهيأت السُّبل لليابان بالنهوض بعد حوالي ثلاثة قرون من العزلة والبناء وفتح الطرق وتنامي الاقتصاد، وتكريس وحدة البلاد، أشرعت اليابان أبوابها أمام العالم تحت ضغط القوة البحرية الأمريكية، لكن هذه المرة باستنهاض روح الديانة الشَّنْتَويّة التي وإن كانت هُزمت في المدن، إلَّا أن القرى والأرياف حافظت على ديانة الأسلاف والتوحد مع الطبيعة.