مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

التصعيد بين السودان وإثيوبيا وأثره على البلدين والمنطقة

نشر
الأمصار

يمكن وصف التصعيد الذي يحدث حالياً على الحدود بين السودان وإثيوبيا بأن اندلاعه لم يأتِ على خلفية نزاع حدودي بالمعنى المتعارف عليه بين الدولتين.

السودان وإثيوبيا

 

ذلك أن الحدود بينهما متفق عليها بموجب اتفاقية مايو/أيار 1902 بين الإمبراطور منليك الإثيوبي والسلطات البريطانية التي كانت تستعمر السودان، وصُدِّق عليها من الجانبين، بل إن البلدين شرعا في ترسيم تلك الحدود على الرغم من مقاومة المزارعين الإثيوبيين، بخاصة من قبيلة الأمهرا التي تقطن الجزء الشمالي الغربي من إثيوبيا الذي يحد منطقة الفشقة التي وضعتها اتفاقية 1902 ضمن حدود السودان لتلك العملية.

 

وليس في الشروع بعملية وضع العلامات الحدودية غرابة في ظل إقرار منظمة الوحدة الإفريقية في 1963 مبدأ إلزامية استمرار اعتراف حكومات مرحلة ما بعد التحرر الوطني باتفاقيات الحدود التي وقَّعتها السلطات الاستعمارية عندما كانت تستعمر معظم الدول الإفريقية.

 

وهذا يعني المحافظة على الحدود الموروثة من الاستعمار، حتى لا تحدث حروب ونزاعات بين دول القارة الإفريقية وتتفرغ حكوماتها للبناء الوطني وتتوحد جهود قادتها لتحرير باقي بلدانها من آثار الاستعمار.

 

وحتى لو سلَّمنا بعدم صحة ما ذهبت إليه منظمة الوحدة الإفريقية بشأن المحافظة على الحدود الموروثة من الاستعمار على نحو ما ذكره الناطق الرسمي للخارجية الإثيوبية الذي اعتبر أن إعادة انتشار الجيش السوداني في منطقة الفشقة تمثل احتلالاً لمنطقة متنازع عليها بين البلدين، مضيفاً أن الجيش السوداني استغل في ذلك فرصة انشغال إثيوبيا بإعادة ترتيب الأوضاع الداخلية بإقليم تغراي. لكن منطق الرجل يعطي السودان لا إثيوبيا الحق في الاحتجاج على الوضع الذي نتج عن اتفاقية 1902، ذلك لأن السلطة التي كانت قائمة في إثيوبيا وقت توقيع اتفاقية الحدود سلطة وطنية مثَّلها الإمبراطور منليك، بينما كان السودان مستعمرةً بريطانية وقَّع نيابةً عنها الضابط البريطاني الكولونيل قوين.

 

أوضح الناطق الرسمي للخارجية السودانية في إشارة إلى ما أثاره نظيره الإثيوبي حول احتلال الجيش السوداني مناطق متنازع عليها مع إثيوبيا، أن إثيوبيا لم يسبق لها أن شكت أو سجَّلت وجود نزاع حدودي بينها وبين السودان، لا على الصعيد الثنائي ولا على المستوى متعدد الأطراف. وأضاف المسئول السوداني أن الاتفاقية التي تحكم حدود البلدين مُصدَّق عليها ومُودَعة لدى الأمم المتحدة.

 

الذي يبدو للمراقب هو أن إثيوبيا ونتيجة لازدياد عدد السكان وقلة الأراضي الزراعية فيها بدأت منذ أواسط ستينيات القرن الماضي في التمدد في سهل الفشقة سواءً بالتعدي على الأراضي الخلوية أو إيجار المشاريع المخططة والمسجلة من أصحابها بواسطة المزارعين الإثيوبيين، مما زاد من عدد القرى والتجمعات الإثيوبية هناك وخلق واقعاً جديداً أصبح كثيرون ينظرون إليه على أنه استيطان. بحلول منتصف التسعينيات تحوَّل الوضع إلى ما يشبه وضع اليد، وساهم في ذلك انشغال السودان بالحرب في جنوب البلاد.

 

وعلى الرغم من حميمية العلاقات خلال مطلع تسعينيات القرن الماضي التي ترتبت على دور السودان في دعم الجبهة الديمقراطية لتحرير الشعوب الإثيوبية بقيادة ملس زيناوي ومساعدته لها على الإطاحة بنظام الدرق والاستيلاء على مقاليد الحكم في أديس أبابا، لم تتوقف إثارة القضية من قِبَل الجانب السوداني في الاجتماعات المشتركة، لكنها ظلت تُقابل من الإثيوبيين بمزيج من الإقرار المُستحِي بالحدود القائمة، وفي الوقت ذاته المماطلة في اتخاذ خطوات عملية في اتجاه استئناف وضع العلامات الحدودية، الذي كان قد شرع فيه.

 

ولكن اقتلاعها بصورة مُتعمدة ومُتكررة وعدم التزام الجانب الإثيوبي سداد ما عليه لتمويل العملية وتحجُّجه عند إصرار الجانب السوداني على ضخ التمويل كاملاً بأنه يرفض ذلك لأنه أمر يتعلَّق بالسيادة الوطنية، إلى جانب نأي الجهات الرسمية في إثيوبيا بنفسها عن القضية وادعائها أن ما يحدث من تعديات ضد المزارعين السودانيين أصحاب الأرض لا يعدو كونه تصرفات فردية معزولة من قبل من تدّعي أنهم أفراد من المزارعين أصحاب المصلحة مدعومين من قبل مليشيات غير نظامية تُسمَّى”الشِفتة”.

 

بل إن البعض في إثيوبيا في بدايات حقبة حكم التغراي كان يزعم أن من ينفذون تلك الأعمال يهدفون إلى زعزعة العلاقات المتطورة بين أديس أبابا والخرطوم، وذلك بزعم أن الأمهرا المعارضين لحكم التغراي هم من يسكنون تلك المنطقة، بالتالي يفعلون ذلك لإحراج إثيوبيا أمام حليفها السودان.

 

قاد التوتر اللاحق بعلاقات البلدين بسبب تداعيات محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس أبابا عام 1995 إلى إصرار الجانب الإثيوبي على التمادي بفرض الأمر الواقع على تلك المنطقة. وشجَّعه على ذلك جنوح السودان نحو خيار عدم التصعيد مع مصر التي احتلت مثلث حلايب، لذات السبب الذي حدا به إلى عدم فتح الجبهة الشرقية مع إثيوبيا، على الرغم من الدعم السخي الذي بدأت إثيوبيا تقديمه لحركة التمرد في جنوب السودان وفتحها أراضيها لقوات الحركة للتدريب والانطلاق نحو أهدافها في العمق السوداني.

 

لقد كانت تلك الأحداث والتراكمات بمثابة معوقات أمام استعادة السودان تلك المناطق الخصبة لسيادته الفعلية. ولكن بعد إقصاء قومية التغراي من حكم إثيوبيا ومجيء آبي أحمد إلى السلطة مسنوداً بقومية الأورومو التي ينتمي إليها والده، وقومية الأمهرا التي تنتمي إليها والدته، زاد التعدي وأصبح يجنح بشكل متقطع نحو الطابع المسلح (نصب كمائن – اعتداء على ارتكازات عسكرية سودانية وحرق مساحات مزروعة بواسطة أصحابها في الجانب السوداني… إلخ).

 

هنا تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد صرَّح أمام البرلمان الإثيوبي بأن المناطق التي تحدث فيها توترات مناطق متنازع عليها مع السودان. ممَّا يشير إلى تعمُّق شكوك الجانب السوداني بنوايا المسئولين الإثيوبيين الذين يرى السودان أنهم ظلوا يميلون إلى استخدام أسلوبَي المماطلة والاستعطاف لاستدامة بقاء مزارعيهم في تلك المناطق.

 

مآلات التصعيد على البلدين والمنطقة

 

في الجانب السوداني يسود تذمر بين المواطنين أصحاب المشاريع الزراعية على الحدود. كما يُوجد تململ من القادة العسكريين الذين ظلت قواتهم في الارتكازات والنقاط الحدودية تتعرض لهجمات وقصف من الجانب الإثيوبي.

 

ويتحدث هؤلاء القادة عن وقوع بعض الاستطلاعات السودانية في كمائن إثيوبية. يُضاف إلى ذلك ما قد ينفذ على المشهد السوداني الداخلي الذي تواجه فيه الحكومة الانتقالية مصاعب جمة، ويشهد تقاطعات وتدخلات من عدة محاور.

 

أما في الجانب الإثيوبي فمع وجود الأمهرا بالسلطة وتعنُّتهم بادعاء ملكية منطقة الفشقة إلى جانب حضور بعض دول الجوار والإقليم الفاعل في المشهد الإثيوبي كما هو الحال في رصيفه السوداني، فضلاً عن حاجة إثيوبيا إلى قضية قومية تعيد بها رتق نسيجها الاجتماعي في أعقاب خروج جبهة تحرير التغراي عن الجبهة الديمقراطية للشعوب الإثيوبية واندلاع الحرب بين السلطة المركزية وإقليم التغراي المجاور للسودان، فإن الأوضاع مرشحة للتصعيد الذي قد يصل إلى المواجهة الميدانية التي بلا شك لن ينحصر تأثيرها على البلدين، بل سيمتد ليشمل المنطقة بأسرها. وفي هذه الحالة فإن التداعيات ربما شملت قضايا كمستقبل مفاوضات سد النهضة والتعاون بشأن البحر الأحمر ومكافحة الإرهاب.

 

بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية قد لا تكون هذه القضية في صدارة أولويات إدارة الرئيس بايدن التي ستركز على مشكلات ترى أنها أكثر أهمية مثل: مكافحة الكورونا وتلافي آثارها الاقتصادية والاجتماعية واستعادة العلاقات مع أوروبا.

 

بالتالي فالمرجع هو تركها الأمر لحلفائها في المنطقة، الأمر الذي بدأت بوادره تلوح في الأفق من خلال جولات نافذين سودانيين وإثيوبيين في بعض دول المنطقة أو زيارات مسؤولين من تلك الدول للبلدين.