عبدالحسين شعبان يكتب: التزوير والتتجير
أثارت فضيحة الشهادات المزوّرة التي حصل عليها طلاّب عراقيون من بعض الجامعات اللبنانية عاصفة شديدة من النقد والاتهام في الأواسط الأكاديمية والثقافية اللبنانية والعراقية. ويُلقي هذا الملف بظلاله القاتمة والكئيبة على أوضاع البلدين السياسية والاقتصادية والمعيشية، ولاسيّما تفكّك الوحدة المجتمعية بسبب نظام المحاصصة والطائفية القائم على الزبائنية والمغانم.
وحسب ما ترشّح من معلومات فهناك ثلاث جامعات لبنانية متورّطة في هذه المسألة منحت شهادات لأعداد غفيرة من العراقيين لم يذهب بعضهم إلى لبنان أصلاً، أو زارها للسياحة، حيث استغلّ بعض النواب والمسؤولين العراقيين مواقعهم وإمكاناتهم للحصول على شهادات الماجستير والدكتوراه.
فثمة رغبات محمومة للحصول على شهادات أكاديمية بأي ثمن، وقد علّقت وزارة التعليم العالي العراقية شهادات الطلبة الصادرة عن الجامعات اللبنانية الثلاث لعدم التزامها بالرصانة العلمية، وورد في وسائل الإعلام اللبنانية إن إحدى المؤسسات المعنية هي “الجامعة الإسلامية” التابعة للمجلس الشيعي الأعلى، التي سارعت لإقالة رئيستها وتعيين رئيس جديد بدلاً عنها، وفتح مجلس الخدمة المدنية اللبناني تحقيقاً في المسألة. ويصل الرقم المتداول إلى 27 ألف شهادة مزوّرة أو مباعة.
أصبحت قصّة التزوير مسألة شائعة واعتيادية في العراق بعد الاحتلال، وشملت وزراء ووكلاء وزراء ونواب وعدد من المستشارين، وبعضهم لا يحمل شهادة أصلاً، كما شمل التزوير شهادات الملكية وتمّ الاستيلاء على منازل وأراضي بعضها لغائبين وشملت أعداداً كبيرةً من المسيحيين، وبعضها بحجّة كون ساكنيها من أعمدة النظام السابق، وتمّ استئجار بعضها من الدولة بأسعار بخسة باستغلال مراكز النفوذ، وأعتقد أن أمام مفوضية النزاهة عشرات الآلاف من الدعاوى الخاصة بالتزوير للشهادات وقضايا الملكية والنزاهة والرِشا والسرقات وغيرها.
إن السمعة الطيبة التي كانت تتمتّع بها الجامعات العراقية تصدّعت بفعل عوامل عديدة في الماضي والحاضر، من أهمها نظام المحاصصة القائم، فضلاً عن أن العديد من الجامعات الأهلية لم ترتقِ إلى معايير الحدّ الأدنى المتعارف عليها علمياً، دون أن ننكر على بعض الجامعات العراقية ما قدّمته وما ساهمت به من رفد المجتمع بكفاءات وطاقات علمية محترمة في فترات سابقة.
تأسست جامعة بغداد في العام 1957 بعد أن جمعت كليات عديدة من أهمها كلية الحقوق التي أُنشئت العام 1908 وكليّة الطب العام 1927 ، وشهد العراق نهضة علمية كبيرة في العهد الملكي، وعلى الرغم من توسع نطاق التعليم في العهد الجمهوري وارتفاع نسبة تعليم الإناث ثلاث أضعاف وشموله الريف بعد ثورة 14 تموز / يوليو 1958 ، إلاّ أن ضعفاً أصاب مستوى التعليم، ابتداءً من “قرار الزحف” الذي أصدرته قيادة الثورة باعتبار جميع الطلبة ناجحين حتى وإن رسبوا في صفوفهم، ثمّ التدخلات التي شهدتها الجامعات باسم ممثليّ اتحاد الطلبة، خصوصاً في فترة احتدام الصراع القومي – الشيوعي.
وزاد الأمر تشويهاً بعد انقلاب 8 شباط / فبراير 1963 ، حيث تمّ سرقة أسئلة (امتحان البكالوريا)، وازداد الأمر فضاضة بحملة الاعتقالات الكبرى التي شهدتها الجامعات والمدارس وسحب يد وفصل العديد من الأساتذة الجامعيين والمدرسين المؤهلين والكفؤين لأسباب سياسية.
وعلى الرغم من التقدم المضطرد والملحوظ الذي حصل في مستوى التعليم بالعراق في السبعينيات ومساعي القضاء على الأمية وارتفاع رصيد البحث العلمي وازدياد البعثات إلى الخارج، إلّا أن الاشتراطات السياسية أصبحت جزءًا من واقع الحياة الجامعية، خصوصاً في فترة الحرب العراقية – الإيرانية وما بعدها، والحصار الاقتصادي الجائر، فجرى التهاون أمام المعايير العلمية في القبول، فضلاً عن المواصفات المطلوبة للنجاح، وقبل ذلك حمْلة “التبعيث” التي شهدتها الجامعات بإخراج ونقل عشرات، بل مئات الأساتذة الكفؤين والمؤهلين وحصرها بتيّار حزبي واحد و بالموالين له، وإغلاق الهوامش المتبقية، بل إن كلّيات بعينها أصبحت حكراً على من هو موالٍ، واقتصر القبول على استمارات خاصة، حيث تم تشجيع العديد من مسؤولي الدولة على الالتحاق بالجامعات دون الشروط والمعايير العلمية.
أما بعد الاحتلال العام 2003 فقد تم تسريح مئات الأساتذة الجامعيين وإحالتهم على التقاعد، وتحوّلت صروح الجامعات أحياناً إلى منابر في المناسبات الدينية، ولم تُراعَ الشروط الأكاديمية في تأسيس عشرات الجامعات الأهلية، ولذلك انخفض مستوى التعليم إلى حدود كبيرة، والأمر يشمل الأساتذة والطلبة والإدارات والفضاء الجامعي، خصوصاً وقد عاش العراق فترة استثنائية بسبب المغامرات والحروب والحصار والاحتلال، وانتشرت مظاهر الشعوذة والسحر والخرافة باسم الدين، وزاد الأمر سوءًا الشحن الطائفي والإثني الذي تكرّس منذ مجلس الحكم الإنتقالي وأصبح عرفاً سائداً مدعوماً بنص دستوري تحت عنوان “المكوّنات”.
إن أخطر ما يواجه أي مجتمع هو التلاعب بشيئين هما التعليم والقضاء، فلم تتأثّر المعايير العلمية لجامعة السوربون وهي تناقش أطروحات طلبة تحت الأرض في فترة الاحتلال النازي ، ولعلّنا نستعيد قولاً شهيراً ﻟ تشرشل بعد القصف الألماني النازي، حين ردّد إذا كان القضاء بخير فبريطانيا بخير، وقضية مثل قضية تزوير الشهادات هذه لا بدّ للقضاء العراقي أن يقول كلمته فيها، إضافة إلى مفوضية النزاهة بعد تتجيرها.