رائد العزاوي يكتب: ثورة 30 يونيو في العقل والضمير العربي
تشكل مصر بموقعها وتاريخها، أهم نقاط الارتكاز الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسطـ، وتشكل العراق الدول الأقدم في المنطقة العربية، لا ينافسهما سوى الدولة الفارسية والدولة العثمانية وهما ذوا عدوانية وتوسع، على عكس الدولة المصرية والعراقية.
حملت مصر بعمقها الحضاري القديم أو بما قدمته للعرب في منتصف القرن الماضي وحتى بداية القرن الحالي إرثًا عربيًا مهمًا، وبوابة نقلت العالم العربي إلى مصاف العالمية عبر الفنون والأدب والعلوم الطبية والإنسانية، التي أبدعت فيها أسماء مصرية، أحدثت تغيرا في تعامل الغرب مع العالم العربي.
كانت مصر منارة للإسلام المعتدل الوسطي، وسعت من خلال كتابها ورموزها الثقافية، إلى تصحيح العديد من المفاهيم التي أساءت إلى الإسلام، ورغم محاولات تشويه الدين عبر تجمعات وأحزاب الإسلام السياسي التي أضرت كثيرًا بهذا الدين.
لم تكن ثورة 25 يناير 2011، إلا بداية لبروز جماعة الإخوان المسلمين وسعيهم المحموم للوصول إلى رأس السلطة في مصر، وكانت تلك الأحداث قد أحدثت الرعب في العديد من الدول العربية، عقب الهزات التي تعرضت لها “تونس وليبيا واليمن وسوريا، وطالت ببعض من شررها العراق والمغرب والجزائر”، فما يسمي”الربيع العربي”.
ما بين فبراير 2011 وحتى يونيو 2013، عاشت مصر واحدة من أخطر مراحل التاريخ الحديث، فخلال هذه الفترة توسعت شبكة علاقات الإخوان المسلمين في مصر مع الكثير من الأحزاب الإسلامية في العالم العربي، وتلقت الجامعة دعمًا واضحًا من أجنتها من الأحزاب، ذات التوجه الإسلامي في تونس واليمن وسوريا والعراق والسودان، بالإضافة إلى الدعم المباشر من قبل قطر وتركيا.
انقلبت تلك الجماعة على كل شيء في مصر، واستهدفت أركان الدولة المصرية، وظهر ذلك عبر الإعلانات الدستورية والقوانين والقرارات الصادرة عن عن محمد مرسي منذ توليه السلطة في 30 يونيو 2012، وحتى نفاذ الدستور، ثم ما تلى الإعلان من قمع واضح، للمعارضين للإعلان الدستور فخروجت جمع كبيرة من الشعب المصري، في مظاهرات أمام قصر الاتحادية، لكن الجماعة حركات مليشياتها فقاموا بالهجوم على هؤلاء المعارضين في مشهد أدى إلى سقوط ضحايا ومصابين كثر، وكان دليل على دموية الجماعة، مما أدى إلى حدوث قتل وترويع أمام قصر الاتحادية دون تدخل من مرسى الذى سمح لشباب الجماعة بقتل المعارضين السلميين.
لكن مصر كان بها رجال واعون يعرفون ويقدرون حجم المخاطر يتقدمهم القائد العام للجيش المصري، الفريق عبد الفتاح السيسي، الذي واصل اليل بالنهار،لاعادة روح الثقة بالجيش وواصل خطط تحديث هذا الجيش، بما يليق بالمهمة المستقبلية لهذا الجيش الا وهي حماية شعب مصر وارض مصر، وزفت مصر ورجال جيشها العشرات من ابناء الجيش والشرطة، في مواجهة قوة الارهاب التي لقيت في غزة وليبيا ملاذا امنا لها، لكن الجيش المصري ظل يستحضر قيم العقيدة العسكرية المصرية، كأقدم جيش في العالم، وبدأ بإعادة التأهيل والتدريب والتسليح، بصلابة وشجاعة الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي لقى دعمًا عربيًا معنويًا كبيرًا، من كلا من دول الخليج العربي، والخيرين في كل دول العربية باستثناء قطر.
كان تفاصيل تلك الايام وما أعقبتها من إحداث مدونة عندي كلما راجعتها أرى فيها عبقرية القياد المصرية وشجاعة الجيش المصري وقوة ابناء الشعب المصري، وكما عشت تفاصيل حملة تمرد التي كنت أحمل استمارتها في سيارتي، وأوزعها لكل من ألقاه حتى جاء اليوم الموعود عندما تحرك كل الشعب المصري يوم 30 يونيو، في كل الشوارع معبرًا عن رفضه للإخوان فكرًا وأشخاص.
العرب يحبسون أنفاسهم خوفا على أرض الكنانة
أحبس ملايين العرب أنفاسهم في كل جموع الوطن خوفا على أرض الكنانة، لكن هي عبقرية الإنسان المصري الذي استطاع عبر ثورة 30 يونيو أن يعيد مصر للمصريين، وأن تعيدها لنا نحن العرب، حيث أن قدمته هذه الثورة العظيمة حافظت على الهوية العربية ضد الأجندات التركية والإيرانية التي توغلت في المشهدين العراقي والسوري، وأن جيش مصر العظيم ضرب نموذجًا كبيرا في أنه من أفضل الجيوش في العالم، حفظا على الإنسان والأرض، وأن الشعوب العربية قادرة على كشف حقائق كذب وزيف مدعي الدين، أو بمعنى أصح عرت هذه الثورة كل حركات الإسلام السياسي، وأن مصر بعمقها الاستراتيجي العربي والإقليمي، إذا ما أصابها أي خطر، فإن ذلك سيضعف كل الدول العربية.
كما أن قوة الجيش المصري وشجاعة أبنائها ضباطا وأفراد، هي قوة لكل الأمة العربية، وهذا واضح بعد سنوات من ثورة 30 يونيو من هذا الجيش يقف بشجاعة أمام أي خطر يواجه العرب في الخليج وفي اليمن وفي ليبيا.
30 يونيو أعادت التوازان في المنطقة
ثورة الشعب المصري في 30 يونيو2013، ما هي إلا محطة مهمة في عودة توازن أرض الكنانة، ومع صعوبة مسار الاستقرار والإزدهار إلا أن الدعم الشعبي يبقى الرصيد الأكبر، وأن التآمر الخارجي المتمثل بتركيا والداخلي المتمثل وللأسف بقطر، على مصر واللجوء إلى العنف والإرهاب من الإخوان ورفاق طريقهم تكسّر أمام إرادة الشعب، لينهي جيش وشعب مصر فصلا مظلما أسدلت ستاره هذه الثورة المباركة .
إن هذه الثورة، أعطت الدرس الكبير لكل الدول العربية أن من يبني الأوطان هم أبنائها فقط، وان شعب مصر هو المثال الحقيقي لشعوبنا العربية القادرة على أن تنهض من سباتها الذي استمر لمئات السنين.
إنجازات عظيمة لقائد ثورة عظيمة
أتابع بشكل يومي إلى كافة الإجراءات التي تتخذها الدولة المصرية، وكمحب لمصر أرى أن المنجز المصري اليوم يتخطى التحديات التى عاشتها مصر زمن محنتها، التى توشك أن تتوارى عن الحياة المصرية تمامًا فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى، الذى أزاح عن مصر الزبد الذى خلفته التجارب السابقة، والتى تركت بصماتها الثقيلة فى الحياة المصرية عمومًا، ونهضتها العمارية المدنية بالخصوص، والتى كان ينبغى أن تتخطى مسارها البطىء خلال السنوات الخمسين الماضية، وكعربى عاشق لمصر، أجدنى ملزمًا أن أرى مصر كما ترى هى باقى التجارب العربية كأم رءوم، تزكم حين يعطس أبناؤها، وتمرض حين يمرضون، وتتوجع كما يتوجعون، فلا مناص من تواشج مصر مع سواها من بلدان أمة العرب، فمصر التى قاتلت ونزفت وعلّمت وكتبت وغنّت وبكت على شقيقاتها العربيات، لا مناص من أن تسمعنا أيضًا، كى نراها أجمل وأرقى، بما يتوافق ومكانتها المرموقة، نحن نعرف حساسية أن يقول آخر -أىّ آخر – ملاحظة، وإن كانت عابرة عن الحياة فى مصر، وهذه حساسية مبررة بحكم الاعتداد الذى يتملك المصريين ببلدهم.
مدركين أن العزة المصرية، بل الشخصية المصرية تؤمن بقيمة الإرث الذى تمتلكه، وهذا لا يمنع أبدًا أن تسمع همس المحب لها بملاحظات ليست عابرة، بل مشاركة متمنية أن تكون الحياة أفضل بكثير مما هى عليها الآن.
بدءًا من تعاملاتها الإدارية التى عفى عليها الزمن إلى الطريقة السلحفاتية التى تستخدم فى البناء المعتمدة على القوة البدنية للعمال الذين يبذلون جهدًا فى بناء البيوت والعمائر، فى حين أن المكننة الحديثة التى ينبغى أن تستخدم لتعجل إنجاز المبانى المراد إنجازها واختصار الوقت والجهد العضلى الفردي، كذلك تأمين أناقة المدن وتحديثها، التى هى بالتأكيد ليست مسئولية الدولة وحدها فحسب، بل الناس جميعًا فرادى ومجاميع والقطاع الخاص، فمن غير المعقول ألا تجرى صيانات على المباني والعمائر، دوريًا وبشكل ملزم من الدولة، كى تظل جميلة وشامخة.
ومن غير المقبول لمصر ألا تدخل المكننة الواسعة فى التنظيف، الذى ينبغى أن تتولاه شركات القطاع الخاص بفاعلية مع رقابة البلديات الصارمة عليها مع تحمّل الناس نزرًا يسيرًا من تكاليفها وإن كانت رمزية كى يشعر المواطن بمسئوليته وبجمال مدنهم وحاراتهم وشوارعهم.
ونقترح حملة أولًا بـ«مدن حول النيل» وتقوم بلدياتها مع سكان تلك العمائر المطلة عليه، والتى تسمى فى التخطيط الحضرى «نطاق الحافة» الأول بحملة إعمار ودهن الواجهات ونظافتها، لتشرق وجه العاصمة والمناطق السياحية فيها فى الأقل، مع حملة لتنظيف وإعادة ترتيب لعدد من الأحياء الجميلة فى القاهرة من أمثال العجوزة، والدقى، والزمالك، وجاردن سيتي، والمهندسين، وسواها كى تكون نموذج لغيرها، فى نطاق الحواف الأخرى فى العاصمة وباقى المدن.
كم يكلف ذلك؟
نعم يكلف مالًا وجهدًا، وقبل ذلك إرادة، يمكن أن يساهم فيها القطاع الخاص والميسورون من سكانها، كما يكلف جهدًا، لمسح غبار المبانى التى يعشقها المصريون ويحبها الزوار، إنها بداية ممكنة، وليست صعبة أو مستحيلة إذا توفرت إرادة التغير وامتحنت محبة المصريين والقاهريين، خصوصًا لمدينتهم الأجمل فى العالم، يقول مثل فرنسى «المدن كالعطور لها رائحة»، وأظن عبير القاهرة والإسكندرية وطنطا وأسيوط وسوهاج وغيرها ينبعث من تاريخ عريق، وحضارة موغلة فى الزمن، لا يمكن التساهل مع إهمالها والاكتفاء بالتفرج عليها، وهى تشيخ وتهرم، فى وقت أن هناك ملايين العمال المهرة فى مصر يمكن توظيفهم لهذا المشروع المهم، لاسيما وأن هذه البلاد علّمت العالم معنى العمائر منذ آلاف السنين، ويرنو سكانها كل يوم إلى إحدى عجائب الدنيا السبع الأهرامات، فمتى نراها مشرقة تباهى بمنجز ورثته من زمن غابر؟
حب مصر ليس كلامًا فضفاضًا ينتهى بمشاعر عاطفية، ولكن برغم أهميتها تعبيرًا عن عمق وطنية الشعب المصرى وقياداته المتفانية، فإن التفانى الحقيقى فى العمل الفردى والجماعى لرؤية نهضتها وشموخها، بفرض تقاليد الحياة اليومية بشكل أكثر جمالًا وصحة واعتدال، برواقة المدن ونظافتها أيضًا.