"عرايا اسطنبول" كواليس السجن لضحايا معارضة الخارج (1/2)
وقع الكاتب والروائي علي الصاوي مؤخرًا روايته الجديدة "عرايا فى إسطنبول" التي تنتمي للأدب السياسي، وتدور حول مدينة إسطنبول وما تشهده من تراجيديا حزينة آلت إليها أوضاع تيارات "المعارضة المصرية فى الخارج" أو هكذا أسمت نفسها بعد فشل عودة الإخوان للحكم.
الرواية التي جرى توقيعها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، تتناول ما حدث بعد الربيع العربي من تحولات سياسية وانحدار أخلاقي عند كثير من الرموز التى تصدرت المشهد السياسي وادعت المظلومية فى بيئة إسطنبول، وقدم الكاتب مسارات فكرية سلطت الضوء على الأفكار المتطرفة التى تستقطب الشباب، كان التصور السائد لدي مجتمع اسطنبول السري أن التاريخ سيكتبهم من الأبطال ويخلد ذكراهم بحروف من النور ، فإذا بالأسرار تتكشف وتسقط الحجب بظهور الولاء السياسي الأعمى الذي يجعلهم فى مرمى نيران الملاحقة والفشل الاجتماعي، وكيف تتخلى عنهم جماعات الإسلام السياسي حين تشتد الأزمات لمواجهة مصير مجهول يفتقدون فيه أبسط الحقوق الإنسانية والاجتماعية وتنهار عندها كل الشعارات التي رفعوها من قبل أمام المال والأعمال والنساء والسطوة والحظوة .
من اللص والكلاب.. إلى القطط السمان
الرواية متعددة الأصوات والرؤى والثقافة والمكانية، فالشخصيات تعبر عن أفكارها بحرية مطلقة، كما وصف الكاتب الرؤوس المسيطرة على مقاليد الأمور فى إسطنبول بـ"قطط اسطنبول السِمان" وهو مصطلح سياسي يصف الطبقة الغنية والمترفة والجشعة فى المجتمع، واستخدم المصطلح فى أواخر السبعينيات عن الطبقة التي تربحت من عصر السادات، وانتجت السينما المصرية فيلما بنفس هذا العنوان فى عام 1978م، فى إشارة إلى حجم الفساد الذي ينخر فى عظام هذا العالم السفلي السري.
وفى عالم الرواية السياسية يضطر الروائي إلى اختلاق شخصيات متصارعة وتهيئ سردية قصصية ذات مواقف متطاحنة على مسرح الأحداث، ليكشف للقارئ الأفكار والولاءات السياسية أو الإيديولوجية.
وتزدهر الرواية السياسية عادة فى واقع يخشي أصحابها من عملية البوح فى المقال السياسي، فالرواية من خلال ارتباطها بسياق تاريخي وطني مليء بالصراعات الإيديولوجية التي تلزم كل روائي بالخوض فىها... هنا ينزع الروائي إلى واقع خيالي ويظهر ذلك من خلال الشخصيات و التصورات السياسية، وهي شخصيات تمتلك سلطة إنتاج الأمر والتلقين والمعرفة نازعة باستمرار نحو أحادية المعنى، فهي تجربة شخصية للأديب تنعكس علي الشخصيات فى معاكسة لتفجر النص فى الرواية المعاصرة.
مرت الرواية المصرية السياسية بتجارب عديدة فمثلاً عندما كتب الأديب الكبير إحسان عبد القدوس روايته الشهيرة " يا عزيزي كلنا لصوص" والتي تتحدث عن "روح اللصوصية واغتصاب حقوق الغير"، وكيف يتنقل المقصود بهم فى الرواية من مجرد لصوص تقليديين إلى نماذج اجتماعية كانت محسوبة ضمن الشرائح الغنية ذات السلطة والقوة والنفوذ فى عصر عبد الناصر نظر إليها البعض على أنها اسقاط على عصر عبد الناصر ورجاله.
إلى أن وصل إلى الرأس الكبيرة التي تضلل الجميع بواجهات كاذبة براقة وأقنعه مغشوشة تستتر خلفها لتمارس مهام الحرامي التقليدي بكفاءة أكبر ودون إثارة للريبة، هنا نقل الناقلون وكتب المرشدون والمخبرون والمنفسنون أن المقصود بالصوص هم رجال عبد الناصر و زعيم العصابة بالطبع هو عبد الناصر وكتبوا التقارير للمباحث العامة بـ " أن المقصود من ذلك رجال أعمال ووزراء على وجه التعيين، وهددوا الكاتب الكبير يومها وحدثت أزمة حينها مع عدد من الوزراء بعد نشرها كحلقات فى بعض الصحف المصرية إلي ان تحولت إلي عمل سينمائي منعته الرقابة بعض الوقت.
نفس الشيء حدث حينما كتب الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ روايته "اللص والكلاب" فيروي عثمان لطفى سكرتير تحرير جريدة "الأخبار" فى ذلك الوقت قصة طريفة ، فقد حدث خطأ فني بالجريدة تسبب فى تحقيق واسع مع الطاقم التحريري قائلا: حدث ذلك فى أوائل الستينيات، وكنت حينذاك أعمل مخرجا صحافيا فى "أخبار اليوم"، و تسبب خطاء مطبعي واختفاء خط فاصل بين عنوانين فى المطبعة، فقد تصدر صفحات الطبعة الأولي من الأخبار عنوان "مصرع السفاح عبد الناصر فى الهند " بدل من “مصرع السفاح (و)عبد الناصر فى الهند" مما أدى إلى حصار الشرطة للدار لساعات وتدخل جهاز المخابرات العامة فى التحقيق مع طاقم السكرتارية بكامله.
كان نجيب محفوظ يكتب فى هذه الاثناء روايته "اللص والكلاب" وكان متعاطف مع السفاح" محمود أمين سليمان" أو سعيد مهران بطل الرواية، وهنا نقل الناقلون لعبد الناصر أنك المقصود، وأن دار أخبار اليوم اخترقت من فلول المعارضين لحكمك، وهنا ينقل عثمان لطفى: لم يكن لدينا من دليل يثبت سلامة النية سوى "الماكيت" الأساسي للصفحة الأولى الذي يوجد به الخط الفاصل بين العنوانين.
شخصيات الرواية
شخصيات الرواية رمزية تفك شفرات قواعد اللعبة السياسية فى الخارج، وتكشف حقيقة بعض الشخصيات المتاجرة بالدين والأوطان، عبر خلق عالم روائي مماثل موازٍ، يَمزج بين الواقع والخيال سبح فيه الكاتب ببراعة داخل الشخصيات لتعريتها أمام القارئ بتجرّد ورؤية فنية.
الاسماء فى الرواية تحمل دلالات كثيرة للغاية تحاكي شخصيات سياسية واعلامية رحلت إلى اسطنبول فى زحمة الأحداث لتلعب ادرواً فيما يسمي المعارضة المصرية فى الخارج، قدمها الكاتب فى الرواية ببراعة وصفية وقراءة دقيقة لميولها النفسية وطموحها السياسي، قد تتماس مع الواقع أو هي من فرط الخيال لكنه ابدع فى تجسيدها.
وشرح الكاتب كيف تسلك شخصية مثل "غانم بركات" كل طريق ولا تتورع من فعل أى شيء للوصول إلى هدفه السياسي مسخرا فى ذلك كل أدواته لفك شفرة اللعبة السياسية حتى وإن كان على أنقاض الأعراض والمصلحة الوطنية، لكنه دفع فى النهاية الثمن فأدرك حجمه جيدا وأنه مجرد عروسة خشبية تحركها يد أخرى من وراء مسرح الأحداث، بعد أن خسر زوجته أم أولاده التي طلقها فى القاهرة بسبب ألاعيب السياسة، وتزوج شخصية اعلامية اخري تملك طموحاً يفوق طموح "غانم بركات" ومشروعه الإعلامي .
وبرزت قضية استغلال النساء تحت ستار العمل الإعلامي فنرى "مني حبور" مثلاً صارخاً بتقديمها إلي القادة ورفاق العمر هدية لتمر على كل الموائد والصالات الإعلامية داخل فضائيات ما يسمي المعارضة ، وعلي عكس ما يدعون الفضيلة أمام الجمهور في العلن تجدهم فى السر وجوهكم أقنعة بالغة المرونة طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة ، لتعيش هذه النخبة المهترئة حالة من الضياع الخلقي.
وهناك شخصيات لافتة الحضور في الرواية ومنها "نبيلة الدريني" التي اتخذت من جسدها مطية للدخول فى عالم السياسية والإعلام وحصد الأموال والاقتراب من كل من يدفع .
السجن الكبير!
تنمني الرواية للواقعية السياسية حيث أظهر لنا الروائي الكثير من السلبيات فى قاع مجتمع إسطنبول السري منها مثلا تردي الاستغلال السياسي للتيارات السياسية وفى القلب منها التيارات الدينية ، صراع الأضداد فى ما يسمي المعارضة المصرية فى الخارج، قلة طرح المشروعات السياسية، وفقدان المهنية الإعلامية المجدية فى عالم الفضائيات.
وقد جسدت رواية علي الصاوي الجديدة عرايا إسطنبول مقولة شهيرة للأديب إحسان عبد القدوس من رواية لا تطفئ الشمس " إن الهارب من السجن يشعر بالقيد أكثر مما يشعر به السجين!"