نظير الكندوري يكتب: لماذا العصيان المدني هو الطريق الأمثل للتغيير في العراق؟
لطالما اختارت الشعوب التي تعيش تحت نير الأنظمة الاستبدادية، التصرف بعاطفية عارمة مع تغيب شبه كامل للعقل، أثناء نضالها لتغيير واقعها. لكن مع الأسف، الدروس البليغة لا يمكن تحصيلها دون ثمن، فالأماني النبيلة التي تحملها الشعوب من أجل التغيير، لا تكفي لوحدها بالوصول إلى النهايات السعيدة التي ترجوها الشعوب. والثورات التي تطلق العنان لعواطفها فقط دون تخطيط أو قيادة واعية، لن تصل إلى أهدافها، وتدفع الشعوب ثمن ذلك غاليًا من دماء شبابها ومن مستقبل أجيالها الذين سيتحتم عليهم الانتظار طويلًا حتى يتمكنوا من الثورة من جديد.
والشعب العراقي لا يختلف عن باقي الشعوب التي تعيش تحت نير الأنظمة الاستبدادية، ويمتلك من العواطف الجياشة وروح التضحية الشيء الكثير، ولديه أماني كبيرة بغدٍ أفضل لبلدهم، لكن التسرع وانعدام التخطيط أثناء نضالهم ومقارعتهم للنظام المستبد، تجعل عملية الوصول لأهدافهم وتحقيقهم لأمانيهم بعيدة المنال، ويخسرون معركتهم مع النظام المستبد المرة تلو المرة، والأمثلة على ذلك كثيرة وعديدة.
آن للشعب العراقي أن يثق بنخبه الوطنية
إن من الأمور التي تسببت بشكل مباشر في خسارة شعبنا العراقي لجميع جولاته التي خاضها ضد النظام، هو نجاح النظام في خلق حالة من عدم الثقة والريبة لديهم تجاه نخبهم الوطنية الواعية والمثقفة، لأن الشعوب بدون قيادة واعية ووطنية، يسهل على النظام اخماد ثورتها، والتحركات العفوية للشعوب والتي لا تكون على أساس التخطيط المُسبق، من السهل على الأنظمة اخمادها ووأدها، وكما نعلم أن التخطيط ووضع الرؤى، هو جهد عادةً ما تقوم به النخب الوطنية الواعية. بل إن النظام يستطيع التلاعب بعواطف الشعوب، وتوجيهها لصالحه، مثل اللعب على وتر العواطف الدينية أو الطائفية، ليجعل الجماهير تتجه إلى رجال الدين الذين هم جزء من النظام، بدلًا من أن تتجه إلى النخب الوطنية الواعية.
لكن بعد مضي هذه السنين الطوال، لا بد لشعبنا أن يعيد حساباته وينظر بشكل مختلف ليجد الحلول لمشاكله، وأول تلك الحلول، هي الابتعاد عن الاعتماد فقط على نبل الأهداف ونقاء الشباب الثائر فقط، لأن ثوراتهم ستنتهي بالفوضى إذا لم يكن لها رأس يقود جهودها الثائرين إلى النصر، وهذا المعنى اتفقت عليه جميع الشعوب، ولا تجد ثورة وصلت إلى أهدافها، حتى لا تنتهي الثورات بالمزيد من الفوضى، وتتمكن من استبدال النظام الاستبدادي، بنظام ديمقراطي حقيقي.
ما هو الأسلوب الأمثل لنضال العراقيين؟
وإذا ما أدرك الشعب العراقي حقيقة أن لا ثورة بالعالم يمكنها الانتصار دون قيادة وطنية تثق بها الجماهير وتقودها إلى النصر، فما هو الأسلوب الأمثل لنضال العراقيين في هذه المرحلة لاستعادة حقوقهم وتغيير واقعهم؟
لقد قام الشعب العراقي في البدء بحمل السلاح ضد المحتل وضد الحكومة التي نصَّبها، وكان نضالًا شهد له العالم بقوته وصلابة أبنائه في مقارعة المحتل ومن جاء معه، جعلت المحتل يضطر إلى جدولة انسحابه، لكن مع ذلك لم يستطيع الشعب العراقي أن يستثمر جهود نضاله في السيطرة على حكم البلاد وضمان استقلاله، وما حدث، أن ترك الاحتلال بعده نظامًا مستبدًا تمثله أحزاب ومليشيات، ووفر له الدعم وفتح له أمكانية توطيد علاقته مع محتل جديد هو المحتل الإيراني.
وفي جولة جديدة للشعب العراقي لأجل تغيير واقعه، ترك السلاح، وأتجه إلى النضال السلمي عبر الاعتصامات والتظاهرات، عسى أن يستفيق ضمير من هو بالسلطة ويلبي مطالب الجماهير، لكن الذي حدث كان مختلفًا جدًا عن توقعات الجماهير، وأنقضَّ النظام على الجماهير مستخدمًا القوة، حتى استطاع إنهاء تلك الاعتصامات والتظاهرات، وخرج النظام من هذا التحدي أكثر قوة وأكثر استبدادًا. وأثناء هذه السنين، عمل النظام على تأسيس دولة المليشيات لتحل مكان دولة المؤسسات، وذلك للحيلولة دون انقلاب المؤسسة العسكرية ضده أو تمكن الجماهير من استمالة المؤسسة العسكرية لصالحها. ووصل الشعب العراقي إلى قناعة، أن النضال المسلح ضد هذا النظام، هي مغامرة سيدفع ثمنها غاليًا من دماء شبابه، والنضال السلمي من خلال التظاهرات والاعتصامات، لن تمكنه أيضًا من اسقاطه، لاسيما وأنه يعتمد في بقائه على مجاميع مسلحة ومليشيات مستفيدة من بقاء هذا النظام. وبالتالي فلابد للعقل العراقي الخلاق، من إيجاد الحلول للخروج من هذا المأزق.
وفي رؤيتنا، أن العصيان المدني الشامل هو الحل الأمثل للشعب العراقي للتخلص من سطوة هذا النظام الاستبدادي، لكن من الضروري أن يكون عصيانًا مدنيًا يراعي الخصوصية العراقية، فالعصيان المدني بصيغته الكلاسيكية يمكن أن ينجح في بلدان أخرى غير العراق، لكن من الصعب أن ينجح في العراق بظروفه شديدة الصعوبة.
خصائص العصيان المدني بنسخته العراقية
وإذا ما شأنا أن نعرج بشكل سريع على أهم خصائص العصيان المدني بنسخته العراقية، فهو من حيث من المبدأ لا يختلف عن أي عصيان مدني قامت به الشعوب ضد أنظمتها الاستبدادية، لكنه عراقيًا، يجب أن في العراق لا توجد آلة عسكرية رسمية واحدة يعتمد عليها النظام في بقائه وقمعهِ للشعب العراقي، أنما أوكل هذه المهمة إلى عدد من المجاميع المسلحة والمليشيات، يستعين بها على قمع الشعب والحفاظ على النظام.
الأمر الأخر، النظام العراقي اليوم، فاقد لإرادة السياسية داخليًا وخارجيًا لصالح لنظام الإيراني، والذي لديه الاستعداد للتدخل وحماية النظام العراقي بكل قوة، وهو ما رأيناه في انتفاضة تشرين وغيرها من الانتفاضات التي سبقتها. وعلى هذا الأساس، فأن الاحتكاك بالنظام أو ميليشياته، سيجعلهما يتهمون الناشطين الوطنيين بالإرهاب ومن ثم القيام بحملة عسكرية ضدهم بحجة محاربة الإرهاب.
بالمقابل، هناك خصوصيات عراقية، يمكن الاستفادة منها في النضال ضد هذا النظام، تتمثل في أنه فشل في تأسيس دولة مؤسسات، وفشل في تأسيس اقتصاد وطني متعدد المصادر، وبقي معتمدًا بشكل شبه كامل على تصدير النفط للعالم والاستفادة من وارداته، وهنا تكمن نقطة ضعف النظام. فالشعب العراقي إذا ما استهدف في عصيانه المدني، محطات انتاج النفط المنتشرة بشتى مدن العراق، وإذا ما استهدف بعصيانه وسائل نقل النفط، ومحطات التصدير في الخليج، فأنه سوف يسدد ضربة قاتلة لهذا النظام يجعله يترنح ومهدد بالسقوط، وإذا ما قام الشعب العراقي بخطوة لاحقة يستهدف بها مؤسسات النظام التي يعتمد عليها في تسير شؤونه اليومية مثل بعض الوزارات ومقرات الأحزاب والمليشيات، ومحطات نقل الركاب الرئيسية، والأسواق المهمة في المدن الكبيرة، فأنه سيصيب النظام بحالة من الشلل الكامل، وسيشجع باقي الشرائح المجتمعية الصامتة للانضمام إلى العصيان المدني والتعجيل بأسقاط النظام.
حينها، ستعجز المليشيات عن حماية النظام، لأنها لا تواجه مسلحين، ولا يمكنها ولا باستطاعتها فرض العمل على المواطنين، والأمر الأكثر أهمية، هو أن قطع الامدادات النفطية العراقية عن العالم، سيجعل أسواق النفط العالمية تضطرب بشدة وترتفع أسعاره لمستويات قياسية، وسيدفع دول العالم الكبرى للتدخل والحفاظ على مصالحها، ووضع حد لهذه المشكلة، ومحاولة تصحيح الأوضاع في العراق، والتي من أهمها، سحب دعمها لهذا النظام وتمكين الشعب العراقي من حكم نفسه بنفسه.