مقابر نادرة في السودان تكشف العلاقة بين مملكة كرمة ومروى
كشفت وسائل الإعلام السودانية، أن الصدفة تقود إلى كشف أثري يعيد صياغة تاريخ السودان، وهي عبارة عن مقابر نادرة ترجع إلى العصر الحجري تزيح الستار عن العلاقة بين حضارتي مملكة مروي ومملكة كرمة.
لم يكن المواطن المزارع محمد بابكر ود البني يدرك وهو يشرع مطلع هذا الأسبوع في حفر متره (ترعة) لري أرضه الزراعية الممنوحة له حديثاً، إنه يحفر على عمق 5000 عام قبل الميلاد إلى 700 عام ميلادية، ليجد نفسه فجأة أمام تاريخ سحيق من رفات الأجداد، وتقوده الصدفة إلى كشف مقابر نادرة رجع إلى العصر الحجري بمنطقه “أرتولي” في ريف “العبيدية الفاروق” محلية بربر بولاية نهر النيل شمال السودان، مما قد يعيد صياغة تاريخ السودان القديم، ويزيح الستار عن علاقة مختلفة وممتدة بين حضارتي مملكتي مروي (900 – 350 ق.م) وكرمة (2500 ق.م)، وذلك بملء وسد فجوة تاريخية لفترة ربما كانت مفقودة وغير مكتشفة سابقاً من تاريخ السودان القديم.
قراءة جديدة للتاريخ
يرجح أن كشف مقابر نادرة قد يفسر ويعيد قراءة تاريخ العلاقات بين ممالك السودان القديمة وتطور امتدادات حضارات شمال السودان القديمة، إذ يضم الموقع الأثري مقابر بشرية تشمل رفات وعظام ترجح الشواهد الأثرية عودة أصولها للعصر الحجري ما بين 1000 عام قبل الميلاد إلى (700) عام ميلادية، كما تشير الدلائل الأولية إلى انتماء تلك المقابر لحضارتي مملكة كرمه امتداداً إلى مروي.
وفي السياق، أوضح مدير الهيئة العامة للآثار بولاية نهر النيل الدكتور محمود سليمان بشير في حديث خاص أن الكشف الأثري عن مقابر نادرة الحديث جرى بمحض الصدفة في أثناء عمليات حفر كان يقوم بها أحد المواطنين لري مزرعته، وعلى الفور كلفت هيئة الآثار والمتاحف فريقاً للقيام بالإجراءات اللازمة تجاه الموقع، مشيراً إلى أنه وفور تلقي المعلومات خاطبت المدير التنفيذي لمحلية بربر بالمحافظة على الموقع ووقف النشاط الزراعي، وكذلك عدم تخصيص أي أراض للزراعة هناك، وجرى إخطار إدارة الزراعة والوحدة الإدارية بمنطقة العبيدية بذلك.
وعكف فريق الآثار على إنقاذ بعضعدد من مقابر نادرة التي تعرضت للتدمير نتيجة الحفر الزراعي، ووعت المواطنين الذين أبدوا تجاوباً وتعاوناً، وأرشدوا إلى مزيد من المواقع الأثرية الأخرى.
مشروع أثري كبير
وأوضح مدير آثار نهر النيل أن هذا الكشف من مقابر نادرة من شأنه أن يكون نواة لمشروع كبير للمسوحات الأثرية، بخاصة المنطقة الممتدة من العبيدية شمالاً وإلى مناطق الرباطاب على الضفة الشرقية لنهر النيل، مثل مناطق لم تشهد أي أعمال مسوحات أو دراسات أثرية، مشيراً إلى أن هذا المشروع سيسهم كثيراً في التعريف بتاريخ المنطقة القديم وموقعها بالنسبة إلى الحضارات والمراكز الحضرية التاريخية عبر الحقب التاريخية المختلفة منذ ممالك كرمة ونبتة ومروي.
وأكد بشير أن الاكتشاف الحديث على الرغم من أنه جرى صدفة، فإن محتوياته بوجود جبانة تحتوي على مقابر ذات دلالات وشواهد أثرية منذ فترة مملكة كرمة في منطقة أرتولي، وهو قطاع من الممكن أن يكون ضمن مركز مملكة مروي التي يبعد مركزها في منطقة الضانقيل 20 كيلومتراً فقط من الموقع، مما يكسبه أهمية خاصة بوجود شواهد أثرية من كرمة في مملكة مروي، بما يعني وجود امتداد أكبر لمملكة كرمة جنوباً، أكثر مما كان يعتقد في السابق، وكلها أدلة جديدة تشير إلى تواصل بين الحضارتين.
جدير بالذكر، أنه كانت حضارة كرمة أو مملكة كرمة حضارة قديمة تتمركز في كرمة، السودان حاليا. ازدهرت من حوالي 2500 قبل الميلاد إلى 1500 قبل الميلاد في النوبة القديمة. تركزت مملكة كرمة في الجزء الجنوبي من النوبة، أو "النوبة العليا" (في أجزاء من شمال ووسط السودان الحالي)، ووسعت لاحقًا نفوذها شمالًا إلى النوبة السفلى وحدود مصر.
يبدو أن مملكة كرمة كانت واحدة من عدة دول في وادي النيل خلال عصر المملكة الوسطى المصرية. في المرحلة الأخيرة لمملكة كرمة، التي استمرت من حوالي 1700-1500 قبل الميلاد، استوعبت مملكة صاي وشملت المناطق ما بين الشلالين الأول والرابع، مما جعل مساحة سيطرتها تقارب جارتها الشمالية مصر، ولكن حوالي 1500 قبل الميلاد، انتهت المملكة بغزوها وضمها إلى المملكة المصرية الحديثة، لكن استمرت التمردات لنحو قرنين من الزمان. بحلول القرن الحادي عشر قبل الميلاد، ظهرت مملكة كوش الأكثر تأثرا بمصر،ربما من كرمة، واستعادت استقلال المنطقة عن مصر.
يبدو أن حضارة كرمة كانت ريفية في المقام الأول، حيث كان عدد سكان مدينة كرمة حوالي 2000 نسمة فق، حيث مارس النوبيون في هذه الفترة الزراعة والصيد وتربية الماشية مثل الأبقار والأغنام، وعملوا في ورش تنتج السلع الخزفية والمعدنية. القطع الأثرية الأكثر ارتباطًا بمملكة كرمة هي على الأرجح الدفوفة، وهي هياكل طينية ضخمة تستخدم كمعابد أو كنائس جنائزية. أبقت مواد البناء المصنوعة من الطوب اللبن الجزء الداخلي منها باردة على الرغم من الشمس النوبية الحارة، في حين سمحت الأعمدة الطويلة بتدفق هواء أكبر. كانت جدرانها مزينة بالبلاط ومزخرفة برسومات متقنة، وبعضها مبطن بالذهب.