د. حسين الهنداوي يكتب: محمد مكية والمدرسة المعمارية البغدادية
تعامل الفنان المعماري العراقي الكبير الدكتور محمد مكية مع بغداد كهم جمالي محض بذاته منذ البدء مانحا اياها موقعا هائلا وحميما فوق العادة في منظوره المعماري.
ففي مقالة له عن "تطور فن العمارة في بغداد" نشرت في 1968، يقدم لنا مكية عرضا تاريخيا شاملا لتطور فن العمارة في بغداد، مستخلصا أبرز الخصائص المعمارية التي تميزت بها عمائر هذه المدينة، بالاعتماد على ما سجله المؤرخون البلدانيون حول معالمها العمرانية من معلومات، وما ورد في كتب الأدب والرحلات من نصوص وتحريات بلغات عدة.
وحسب هذا المعماري الرائد، الذي غادرنا قبل سنوات ثمان، لم يكن هناك فن للعمارة الإسلامية، تتجسد فيه كل الخصائص الجديدة، "قد ظهر للوجود، قبل أن تتولى بغداد تكوينه وابداعه".
فالتمدن الإسلامي في هذه البقعة من العالم القديم، أوجد حاضرة تولت مسؤولية تمدن سريع نجم عن نشاط حضاري في كافة الميادين، مما جعل منها حاضرة العالم الإسلامي ودار الخلافة العباسية ومركزاً تجارياً هاماً جمع إليه الناس من كل الأقطار والأمصار، حتى أصبحت كما قيل "الدنيا بادية وبغداد حاضرتها".
إذ أنه يعتبر ان فن العمارة قبل قيام بغداد، "لم تتوفر له الفرص والإمكانات ليهيمن على تكوين منشآتها الجديدة أكثر من أن يحاول تحقيق مسقفات واسعة كانت تجمع بين عناصر الفن الأغريقي والروماني والهلنستي، تلك التي ظهرت معالمها واضحة في الإنجازات المعمارية التي تحققت في بلاد الشام إبان الحكم الأموي. فقبة الصخرة والجامع الأموي – بعد تجريدهما من زخارف التكسية السطحية – هما معالم تاريخية أكثر من كونهما معالم لمنجزات في فن العمارة الإسلامية الخالصة".
علم الآثار الإسلامية وتاريخ فنونها
وهكذا، فإذا اتفقت آراء الباحثين في علم الآثار الإسلامية وتاريخ فنونها، حول مصادر هذه الفنون وعناصرها الهلنستية، فإن "من الصعب أن توسم منجزات بغداد، وما أعقبها من تطور العمارة الإسلامية في المنطقة، بالتبعية الهلنستية، أو توصل بمصادر الاشتقاق من العمارات اليونانية والرومانية".
لكن دراسة التراث المعماري البغدادي ظل متأخرة وناقصة جدا في العراق لحد الآن شأنها شأن دراسة غيرها من مواطن التراث المعماري العراقي القديم والاسلامي وحتى العثماني والحديث، فجميع رموز هذا التراث لا زالت اقرب مجرد ركام من المواقع لا قيمة له سوى القيمة التاريخية بينما ينبغي تحويله الى رصيد حضاري وجمالي وأن نبعث فيه الحيوية الإبداعية، الامر الذي يتطلب منا أن نتحلى من الآن وصاعداً بالجرأة على التعمق الدراسي والتخطيط المنهجي لمعالجة هذا التقصير لا سيما في هذه الفترة الحاسمة من تاريخنا التي تجد انطلاقتنا العمرانية فيها محاطة بشتى تيارات التطور الجاذبة بعيدا عن التراث والخصوصية العمرانية في مختلف الميادين.
وبرغم ان لبغداد وقعها الساحر في أذهان الزوار الأجانب وقلوبهم ولهم أحلامهم الجميلة حيث أنهم غالبا ما ييربطون ذكرها المجرد بأجواء قصص ألف ليلة وليلة والمشاهد الخلابة. الا هذا الرصيد الثقافي والحضاري عرضة للضياع او التبذير ما لم نهيئ لهؤلاء الزوار ما في واقع بغداد التاريخي من جماليات وتراث يكفل لهم على الاقل اكتشاف بعض ما في تلك الأحلام من صور دون خيبة أو احباط.
والحال، ان الظاهرة التي تصدم معظم زوار بغداد والقاصدين اليها من علماء وسياح ومشاركين في مؤتمرات وندوات وحلقات دراسية اجتماعية وعلمية وأدبية، هي "افتقار بغداد إلى كيان مديني يتلاءم بمقاييسه وشخصيته وملامحه مع شهرة اسم هذه المدينة وتاريخها العريق ومكانتها كحاضرة تاريخية رائعة من حواضر العالم لعبت دوراً حضارياً مشهوداً".
فالفوضى المعمارية، وفوضى التخطيط، تطبعان كل مجالات الحياة فيها. الا انهما لا تقتصران على بغداد وحدها بل تشملان أكثر عواصم وحواضر العالم العربي في الواقع. وهي ظواهر متأتية في رأي مكية "من جهل ضارب في مفهوم الكيان التخطيطي وعدم اكتراث الحضاريين أنفسهم وعملية التخطيط للمدينة لا تنحصر بمفهوم ضيق يقف عند فتح الشوارع وانشاء الأبنية وتهيئة الساحات والحدائق، بل إنها عملية حضارية معقدة وشاملة تستوجب اظهار خصائص ومقومات المدينة على أسس علمية وفنية في ضوء إدراك وحسّ لمستقبل يتصل بزمان ومكان المجتمع الحضاري.
لكن ما يحصل في بغداد والمدن العربية والإسلامية الأخرى اليوم من فوضى وتوسعات عشوائية وهي في غمرة تطورها ونموها السريع يؤديان حتماً الى مسخ لتاريخها العمراني والحضاري وتدمير لتواصله مستقبلا، بينما الأولى بالمعماريين ان يكونوا رسل ثقافة مجتمعاتهم وتاريخ حواضرها لدى المستقبل.
وينظر مكية بقلق ايضا الى التضخم السكاني الذي تعانيه بغداد والعواصم العربية والاسلامية الاخرى، فهو يشير مرارا الى ان عدد المحرومين من المسكن في العالم الاسلامي بلغ نحو 800 مليون شخص عام 1987 يعيش معظمهم من دون مأوى، وهو عدد مرشح للارتفاع بلا ريب. فمدينة مثل بغداد كان عدد سكانها في زمان طفولتنا 360 ألفاً اصبح تعدادهم سبعة ملايين مع نهاية القرن العشرين، وعدد سكان القاهرة الآن 17 مليوناً وستكون أكبر مدن العالم سكاناً مع القرن القادم.
حيال هذه المشكلة المتفاقمة ينبغي ايجاد حلول كبيرة تنطلق من تراث العمارة الإسلامية ذاتها انما مع اعتماد المواد الحديثة في البناء. فتلك الحلول ليست مجرد بناء بيوت، بل تخطيط مدن تقدم السكن والخدمات لملايين السكان.
ومحمد مكية ينظر باحترام الى التجربة المهمة التي قدمها المهندس المعماري المصري حسن فتحي (1900-1989) عبر مشروع "عمارة الفقراء" الذي اعتقد بامكانية اعتماده لحل مشكلة بناء بيوت لأغلبية السكان لا سيما الفقراء عبر استخدام تقنيات التراث المحلي للعمارة الشعبية، اذ يعتبره مكية "مثالاً رائعاً" على امكانية استخدام مواد البناء المحلية ومساهمة السكان في البناء.
أما سبب اخفاق حسن فتحي في مشروعه ذاك رغم امتلاكه فرصة تنفيذ ودعم دولي لم يتوفرا لغيره من كبار المعماريين العرب، فذلك لأنه "لم يستخدم العلم المعاصر في احياء التراث بل اعتمد على الايدي المحلية في تحضير الطين والآجر وهذا أمر لم يعد عملياً في الوقت الحاضر سواء من الناحية الاقتصادية أو الخبرة العلمية، كما أن الطين ذاته لم يعد متوفراً الآن كما في الماضي.
كما فرط فتحي بتقنيات معروفة لدينا كبناء الطوابق المتعددة على اساس انها لم تكن موجودة في التراث المعماري المصري القديم، ورفض كذلك معطيات التمدن التي كان يمكن دمجها بتقنيات التراث لتقديم بناء جديد يخدم وظائف البناء اللازم اليوم".
وبكلمة يرى مكية ان اخفاق مشروع "عمارة الفقراء" يعود اساسا لانه لم يعالج المشكلة عبر الجمع بين التراث المعماري المحلي وبين المواد الحديثة في البناء والتقنيات العالمية الجديدة في تخطيط المدن, وهذا المنهج هو ما نفذه مكية في تصميمه لجامعة الكوفة حيث قام كما يخبرنا بتوزيع الفضاءات والمسقفات وفق نظام الساحة الوسطية وتكرارها كوحدات جامعة.
وهذا الاسلوب التخطيطي، بالإضافة إلى كونه يستخدم المزايا المحلية للعمارة العراقية قبل الإسلام وبعده، فانه اعتمد تقنيات العمارة الحديثة محققا عدة اهداف دفعة واحدة في مقدمتها ضمان توفر الخصائص الأكاديمية لدور العلم بأفضل شكل، وتلبية متطلبات حضور عنصر المناخ والطبيعة وعموم البيئة الجغرافية.
وعلى العكس من منهج حسن فتحي الذي اهمل مواد البناء الحديثة، عمل منهج مكية على الاستفادة من طابعها الخاص وقدراتها في رفع قوام التصميم وتكوينه وشكله العام، ولم يتجاهل قدرات المواد الكونكريتية ليس فقط في ان تستخدم كواسطة لتقليد المساند الجدارية القديمة دون الحاجة الى الضخامة والمتانة الحجمية التي كانت تأتي دائما على حساب جماليات الأروقة والمساند الاجرية المخصصة لتشييد العقود.
ولقد اسفر هذا المنظور عن توفير شروط اسلوب جديد لاستعمال المواد الحديثة في العمارة البغدادية والاسلامية عامة، كما ضمن مرونة ومميزات أصيلة وسهولة في الاستعمال واقتصاد في التكاليف لا يمكن تحقيقه بالاعتماد على أي بديل محلي للمواد المستحدثة الاستعمال هنا.