مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

د.عبد الحفيظ محبوب يكتب : تأكيد استقلال القرار السعودي في الصراع الروسي الغربي حول أوكرانيا

نشر
الأمصار

التوترات بين روسيا وأوكرانيا تعود إلى العصور الوسطى، فكلا البلدين لديهما جذور في الدولة السلافية المسماة ( كييف روس ) لذلك دائما ما يتحدث الرئيس بوتين عن شعب واحد، على غرار الصين وتايوان دولة واحدة، حيث كانت هناك مساحة شاسعة من أوكرانيا جزء من الإمبراطورية الروسية في القرن السابع عشر، استقلت أوكرانيا بعد انهيار الإمبراطورية الروسية عام 1917لكن لفترة وجيزة قبل أن تقوم روسيا باحتلالها مرة أخرى، لكن في ديسمبر 1991 كانت أوكرانيا بالإضافة إلى بيلاروسيا كانتا المسمار الأخير في نعش الاتحاد السوفيتي.
حاولت موسكو الاحتفاظ بنفوذها عن طريق تأسيس رابطة الدول المستقلة وتصدير الغاز الرخيص عبر أوكرانيا، لكن تمكنت روسيا من بناء تحالف وثيق مع بيلاروسيا فيما كانت أوكرانيا تتطلع وتميل نحو الغرب، وهو ما أزعج موسكو، بسبب اقتصادها ضعيف وكانت مشغولة بالحرب في الشيشان، ما جعل موسكو تعترف بالعقد الكبير بحدود أوكرانيا بما فيها شبه جزيرة القرم عام 1997، لكن نجحت روسيا في نزع أسلحة أوكرانيا النووية مقابل ضمانات أمريكية لحمايتها في حال أي هجوم روسي محتمل.
كانت أول أزمة دبلوماسية في عهد بوتين في عام 2003 عندما أرادت موسكو بناء سد في مضيق كريتش باتجاه جزيرة كوسا تسلا الأوكرانية اعتبرتها أوكرانيا بمثابة ترسيم حدود جديدة بين البلدين، لكن تم إيقاف بناء السد بعد لقاء ثنائي بين رئيسي البلدين، لم تتوقف موسكو عند هذا الحد، دعمت فيكتور يانوكوفيتش المقرب منها في انتخابات عام 2004 لكن الثورة البرتقالية حالت دون فوزه، وفاز بدلا منه القريب من الغرب فيكتور يوشتشنكو خلال رئاسته قطعت روسيا الغاز المار بأوكرانيا المار إلى أوربا خلال عامي 2006، 2009.
وفي عام 2008 حاول الرئيس بوش الابن إدماج أوكرانيا وجورجيا في حلف شمال الأطلسي، لكن موسكو أعلنت أنها لن تقبل هذا الانضمام، وتدخلت فرنسا وألمانيا ووقفت أمام تنفيذ بوش خطوته تلك، ومارست موسكو ضغوطا اقتصادية هائلة على أوكرانيا في 2013 بسبب توقيع أوكرانيا اتفاق تعاون مع الاتحاد الأوربي، اضطرت الحكومة الأوكرانية إلى تجميد هذا الاتفاق أدت إلى انطلاق احتجاجات على هذا القرار، عندها هرب الرئيس الأوكراني يانوكوفيتش إلى روسيا في فبراير 2014، ما جعل بوتين يتجه نحو ضم شبه جزيرة القرم في مارس 2014، وبداية حرب غير معلنة، ودعمت انتفاضة في منطقة الدونباس الغنية بالفحم، وفي يونيو 2014 بوساطة ألمانية وفرنسية رعاية اتفاق بين البلدين سمي بصيغة نورماندي وقع على هامش الاحتفال بمرور 70 عاما على يوم الإنزال على شواطئ نورماندي، بعد ذلك تحول الصراع إلى حرب بالوكالة في 2015 منيت القوات الأوكرانية بهزيمة في مدينة ديبالتسيفي الاستراتيجية، وبرعاية غربية تم الاتفاق على مينسك2 لإحلال السلام.
طلب الرئيس الروسي بوتين في 2021 بشكل علني من الولايات المتحدة ألا تسمح بانضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، لكن الولايات المتحدة رفضت قبول هذا الطلب، مستثمرا بوتين الانسحاب العسكري الفوضوي الأمريكي من أفغانستان والاضطرابات التي تعانيها الولايات المتحدة على الصعيد الداخلي، كما يرى بوتين أن الغرب في حالة انقسام شديد بشأن دور الولايات المتحدة في العالم بسبب أخطاء بايدن الدبلوماسية التي أدت إلى نفور الشركاء خصوصا بعد اتفاق الغواصة النووية الذي طرحه بايدن مع بريطانيا وأستراليا وكان مفاجأة لفرنسا، ولم تعد أمريكا الملاكم القوي والقطب الأوحد ونهاية التاريخ وغيرها، وترفض أمريكا بناء علاقات بين الغرب وروسيا بناء على توازن المصالح، بل ترفض الولايات المتحدة الاعتراف بصعود الدب الروسي، وتود ان تحجمه في أوكرانيا، وهي فرصتها بديلا عن تكاليف انتشارها العالمي، لكن عليها أن تعيد النظر أن انتشار ألمانيا كان أحد أسباب ضعفها وهو ما تدركه الولايات المتحدة وتحاول الانسحاب من مناطق انتشار كثيرة حول العالم حيث هناك اكثر من 120 قاعدة عسكرية منتشرة حول العالم، وكذلك روسيا هزمت ألمانيا ومن قبل نابليون مستفيدة من جيوبولتيكية مساحة أرضها بجانب ما تمتلكه من أسلحة نووية وتقليدية.
تعتبر روسيا أكبر مصدر للنفط لأوروبا، وقدمت 26 في المائة من النفط الذي استورده الاتحاد الأوربي في 2020، وتريد أوكرانيا وبعض دول الاتحاد الأوربي منها بولندا وليتوانيا فرض حظر على النفط والغاز الروسيين، في حين تعارض ألمانيا والمجر فرض حظر نفطي فوري، حيث شكل النفط ومنتجاته أكثر من ثلث عائدات صادرات موسكو في 2021، وتنفق أوربا حاليا 450 مليون دولار يوميا على النفط الخام الروسي والمنتجات المكررة يوميا على الغاز ونحو 25 مليون دولار على الفحم، بل ارتفع الطلب على الغاز الروسي إلى 68.4 مليون متر مكعب في 25 أبريل 2022 بعدما كان 53 مليون متر مكعب قبله بيوم واحد.
هناك مخاوف ألمانية بشأن معدل نموها الاقتصادي، وتبحث عن كيفية تقليل الاعتماد على النفط الروسي، فهي أوقفت الفحم باعتباره ثانوي، لكنها تتجنب هي ودول أخرى حظر صادرات روسيا من النفط والغاز خوفا من أضرار اقتصادية جسيمة، وستواجه انكماشا اقتصاديا في 2023 في حال وقف استيراد الغاز الروسي بصورة فورية في سياق العقوبات المفروضة على روسيا لغزوها أوكرانيا، وسيتراجع اقتصادها في 2023 بنسبة 2.2 في المائة، وسيصل التراجع التراكمي لعامي 2022،2023 إلى نحو 220 مليار يورو ما يمثل 6.5 في المائة من الثروة السنوية، ويمكن يتراجع الناتج المحلي إلى 5 في المائة حيث كانت تستورد ألمانيا قبل الهجوم على أوكرانيا أكثر من55 في المائة من حاجتها من روسيا خفضتها بعد الغزو إلى 40 في المائة.
بدأت أوربا تندد بابتزاز الغاز بعدما رفضت الرضوخ لشرط موسكو الدفع بالروبل، وهناك أربع دول أوربية دفعت بالروبل، وأوقفت روسيا ضخ الغاز إلى الدول التي ترفض الدفع بالروبل مثل بولندا وبلغاريا، وهناك تحذير دولي من تداعيات خسارة الغاز الروسي على اقتصاد أوربا، بل حتى وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين على عكس بايدن حذرت أوربا من فرض حظر أوربي على واردات النفط والغاز الروسية قد تكون له عواقب اقتصادية غير مقصودة، وترى يلين أن الحظر الكامل سيرفع أسعار النفط العالمية، وسيكون له تأثير ضئيل على روسيا، خصوصا وأن روسيا تخطط لزيادة التعامل بالعملات الوطنية مع دول مجموعة بريكس التي تضم البرازيل وروسيا والهند والصين وجمهورية جنوب أفريقيا ومنظمة شنغهاي للتعاون والاتحاد الاقتصادي الأوراسي تراوح نمو التجارة مع هذه المنظمات في 2021 بين 34 و 38 في المائة حيث توفر هذه المنظمات نصف الاقتصاد العالمي.
تواجه موسكو سلسلة من العقوبات الاقتصادية هي الأشد منذ الحرب العالمية الثانية منذ الهجوم العسكري الروسي في 24 فبراير 2022، لكن هناك عدد من الدول التزمت الحذر الشديد ورفضها الرضوخ للضغوط الغربية وعلى رأسها السعودية، ففي 2 مارس 2022 في الجمعية العامة للأمم المتحدة امتنعت الهند وجنوب أفريقيا خصوصا عن التصويت على مشروع قرار يطالب روسيا بالانسحاب من أوكرانيا، وهناك عدد كبير من الدول تأكيد استقلالها رغم رغبتها في تعاون أوثق مع الغرب وحاجتها إلى دعم غربي.
ومن جانبه قال سفير تشيلي السابق في الهند وجنوب أفريقيا خورخي هاينة إن إدانة غزو أوكرانيا شيء وشن حرب اقتصادية على روسيا شيء آخر، والعديد من الدول في أميركا اللاتينية وأفريقيا وآسيا ليست مستعدة لاتخاذ هذه الخطوة، ووفق وكالة الصحافة الفرنسية أن هذه الدول لا تريد تدفع إلى اتخاذ موقف يتعارض مع مصالحها، كما مورست ضغوط على مجموعة العشرين لكن إندونيسيا التي ترأسها رفضت استبعاد روسيا منها باسم الحياد.
فالعقوبات القاسية لم تردع الرئيس بوتين عن تمديد محاصرة ماريوبول، لكنها خفضت طموحات بوتين ليس بسبب العقوبات ولكن بسبب تصميم القوات الأوكرانية في الميدان، بسبب أنها تتلقى أسلحة ثقيلة من أمريكا ومن دول أوربية وبشكل خاص من بريطانيا، رغم ذلك حررت القوات الروسية مدينة ماريوبول في شرق أوكرانيا وهي جائزة استراتيجية لروسيا إذ تعزز وصولها لشبه جزيرة القرم وفي المدينة أكبر مصنعين للصلب، وبذلك تكون روسيا قد سيطرت على بحر آزوف وبسيطرتها على خيرسون وميكولايف لم يتبقى لها سوى السيطرة على أوديسا عندها ستعزل أوكرانيا عن البحر السود، وتصبح دولة داخلية حيث 80 في المائة من صادرات أوكرانيا يتم تصديرها عبر ميناء أوديسا الساحلي، وستحقق روسيا منافع اقتصادية واستراتيجية.
فروسيا تتقدم ببطئ نحو أهدافها، وأوكرانيا تتسلح وتقاوم، لكن روسيا تستعرض عضلاتها وتنشر صواريخ سارمات في تحديث نووي تاريخي، في المقابل هناك أكثر من 20 دولة وافقت على حضور اجتماع رامشتاين لبحث مستقبل أوكرانيا الأمني حيث تتطلع أمريكا إلى انتصار أوكرانيا، وفشل موسكو، بل إن بريطانيا تحذر من عواقب وخيمة عالميا إذا انتصرت موسكو، وتحض على دعم أوكرانيا بأسلحة ثقيلة.
شكلت صادرات النفط والغاز معا نحو 60 في المائة من عائدات الصادرات الروسية في 2021، ما جعل أمريكا تلجأ إلى منظمة الدول المصدرة للبترول أوبك بقيادة السعودية، وتم إرسال جاك سوليفان مستشار الأمن القومي إلى الأمير محمد بن سلمان لطلب ضخ مزيد من النفط في الأسواق ثم تم إرسال الرئيس ماكرون تبعه رئيس وزراء بريطانيا جونسون واتصل رئيس وزراء اليابان، لكن السعودية لم ترضخ لتلك الضغوط بسبب الأحداث الجيوسياسية التي لم تكن بسبب كوارث وأزمات لم يتسبب فيها العالم الغربي نتيجة صراعه مع روسيا في أوكرانيا. 
وأوضحت السعودية أنها مسؤولة عن إدارة سياسات توازن سوق الطاقة وهي منظمة غير مسؤولة عن تصحيح أخطاء الآخرين أو الدخول مع طرف ضد طرف، ولا تود المشاركة في هذا الصراع، خصوصا وان روسيا لديها تحالف مع منظمة أوبك بجانب دول من خارج أوبك، حيث أن السعودية تحتفظ بعلاقات صداقة استراتيجية مع الولايات المتحدة وأوروبا وكذلك مع روسيا، لكن تبقى مصلحة السعودية أولا، بسبب أن أسعار النفط كانت منخفضة تاريخيا استفادت منها الدول المستهلكة على حساب الدول المنتجة، فدول أوبك أكثر ميلا إلى إبقاء الأسعار لفترة أطول لجذب الاستثمارات المطلوبة في قطاع النفط.
والسعودية لا تدفع ثمن أخطاء الآخرين خصوصا على خلفية عقيدة الطاقة للحزب الديمقراطي والتي تم الإعلان عنها في يناير 2021 والتي تسعى إلى الحد من إنتاج الهيدروكربونات في الولايات المتحدة والحد من انبعاثات غازات الدفيئة على مستوى العالم للتقرب من دول الاتحاد الأوربي لاستعادة العلاقات التي اهتزت وتدهورت في عهد الرئيس ترمب، حيث تؤمن عقيدة الطاقة لبايدن والحزب الديمقراطي إلى تأمين كهرباء خضراء لتلبية الأهداف المناخية الملحية، ومع ذلك لا تزال قضايا التقطع وتخزين الكهرباء دون حل، ولا تزال على بعد عقدين على الأقل من الحلول العملية، رغم انها مبررة على المدى الطويل للوصول إلى طاقة ميسورة التكلفة لدرء التضخم.
ما جعل إدارة بايدن تتوقف عن إصدار تصاريح الحفر في الولايات المتحدة، وقضت على خط انابيب كيستون إكس إل الممتد من كندا إلى الولايات المتحدة باسم المخاوف القبلية والبيئية والأمريكية الأصلية، حيث جذب بايدن ناخبيه الديمقراطيين من خلال خفض التكاليف المناخية لإنتاج الوقود المحلي، في المقابل يضغط بايدن على السعودية من أجل زيادة الإنتاج لخفض الأسعار في الولايات المتحدة بعدما وصل التضخم الأعلى منذ أربعة عقود، كذلك وضع أوربا في وضع محرج بعد وضع عقوبات قاسية على روسيا ومطالبة أوربا بحظر النفط والغاز الروسيين لكن دون توفير بدائل لغاز والنفط الروسيين حيث أن الغاز في بريطانيا وبحر الشمال وهولندا آخذ في النفاذ ولا يوجد إمدادات غاز محلية إلى جانب النرويج.
أصبحت مشاكل الطاقة تتفاقم في القارة الأوربية بسبب السياسات العامة، ففي ألمانيا مثلما أوقفت أمريكا التنقيب وإعطاء تصاريح الحفر، كذلك ألمانيا جعلت الأولوية في وقف المحطات النووية على إيقاف تشغيل محطات الفحم والغاز على الرغم من استثمار 30 مليار يورو في تحويل الطاقة الألمانية في 2021 فإن الانخفاضات السريعة في تكلفة طاقة الرياح والطاقة الشمسية لم تترجم إلى كهرباء رخيصة بسبب إيقاف تشغيل محطات الفحم والنووية.
ارتفاع أسعار النفط والغاز سيؤدي حتما إلى خسارة الديمقراطيين لانتخابات الكونغرس في نوفمبر 2022، ويمكن بالتأكيد أن يحدث في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، بعدما فشلت أمريكا في اختبار صلابة أوبك+ وقدرتها تحت قيادة السعودية، بعدما اتخذت قرار حظر وصول النفط الروسي إلى الولايات المتحدة رغم قلته ومطالبة أوربا كذلك، لكنها فوجئت بموقف سعودي ملتزم بالاتفاق الذي يعود إلى العام 2016 ودعمه ترمب، باعتبار أن السعودية تمتلك مفاتيح قطاع الطاقة العالمي، وقد تلجأ السعودية إذا زادت الضغوط الأمريكية في ترك المنطقة لإيران تتلاعب فيها، وتتدخل في اليمن باعتباره أمن سعودي خليجي عربي يجعل السعودية تلجأ إلى تسعير مبيعات النفط باليوان الصيني بدلا من الدولار على غرار روسيا، ما يجعل الولايات المتحدة تفقد مكانتها على الساحة العالمية، ليس هذا فحسب بل قد يعيد ترتيب النظام الإقليمي على أساس شروط تصب في صالح السعودية خصوصا وأن الصين تترقب ملئ الفراغ الأمريكي في المنطقة.
فالسعودية وسط أجواء أزمة الطاقة التي لم تكن سببا في هذه الأزمة، وعندما استهدفت منشآت الطاقة في السعودية لم يساهم العالم في ردع مليشيات إيران الحوثيين وغيرهم، ولا زالت تعاني من حرب ضد إرهاب الحوثي في اليمن ناتج عن رفع أمريكا الحوثيين من قائمة الإرهاب لضمان سير المفاوضات مع إيران في فيينا، فيما إيران تزود الحوثيين بالصواريخ البالستية التي تطلقها على المنشآت النفطية والحيوية والتي تهدد أمن إمدادات الطاقة العالمية.