مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

أدهم ابراهيم يكتب: بغداد من حاضرة التمدن الى الترييف والبداوة

نشر
الأمصار

بغداد الملحمة المجيدة في أرض العراق ، وأسطورة السحر والجمال على مر التاريخ.
بغداد التي عُرِفَتْ  باكثر المدن شهرة في العالم القديم والحديث بعظمتها ورقي اهلها .
بغداد التي يحتضنها نهري دجلة والفرات وتزينها بساتين النخيل وضفاف ابونواس، وحكايات الف ليلة وليلة والبساط السحري.
بغداد التي كانت على الدوام عاصمة العراق ودرته ، وكانت موضع اهتمام الحكام على اختلاف مشاربهم ونهجهم .

بغداد المدينة الجميلة الوادعة مدينة السلام  يتم تشويهها وتغيير معالمها لطمس هويتها ومجدها عن جهل احيانا ، وعن قصد احيانا كثيرة من قبل الطارئين عليها .

بنيت بغداد عام 762 ميلادية من قبل الخليفة الثاني للدولة العباسية أبو جعفر المنصور لتكون عاصمة الدولة .

وازدهرت بغداد بالعلوم والفنون والعمارة على مر التاريخ ، حتى اصبحت مطمعا لكثير من الغزاة ، فمرت عليها احداثا" جسام كادت ان تطمس معالمها ، الا انها كالعنقاء تعود كل مرة بحلة جديدة ، وبقيت عاصمة العراق الحديث .

تم بناء النسيج الحضري المعاصر لمدينة بغداد خلال القرن العشرين على وفق معايير اجتماعية وثقافية رصينة جسدت القيم الفكرية والجمالية لهذه المدينة العريقة. 

ويعود الفضل لهذا البناء الحضاري الثقافي لمدينة بغداد الى اهلها من ذوي الطبقة المتوسطة ، ذات القيم الفكرية والاخلاقية العالية .
وهذه الطبقة تتوسط بين الاغنياء والفقراء . وتضم فئات الموظفين والمعلمين والضباط والاطباء والمهندسن والمحامين والادباء والفنانين وصغار التجار والصناعيين وغيرهم ممن لديهم موارد ثابتة او كافية للعيش بكرامة . . وهم من غير المحتاجين او المعوزين.

ولايطمحون بالغنى الفاحش لكونهم قانعون ومتدينون دون غلو لايمانهم بالله مع عدم اهتمامهم بالتفاصيل والتفرعات الدينية ، وليس لديهم اي اهتمام بالطوائف او القوميات . محبون لبعضهم ، كارهون للانانية والطمع . ولا ينتابهم القلق من الحاجة في المستقبل . ولا اللهاث وراء المال .

الطبقة المتوسطة هذه حافظت على سمات بغداد الاساسية رغم اختلاف انظمة الحكم المتعاقبة عليها .

اليوم وبعد تسعة عشر عامًا من الغزو الأمريكي الغادر لها اصبحت مدينة بغداد تفتقر لابسط مستلزمات الحياة ، وعانت من الفساد والاهمال حتى صنفت من قبل منظمة الشفافية الدولية على انها من بين أكثر المدن فسادًا في العالم .

فاصبحت تفتقر الى الماء الصالح للشرب والى الكهرباء عصب الحياة ،  اضافة الى النقص الخطير في عدد المدارس والمدرسين والافتقار الى الرعاية الصحية والخدمية ، مع انتشار العشوائيات ، وفوضى الطرق ومستلزماتها ، والاخلال بالنظام العام دون حسيب او رقيب .
وكان الافتقار للامن والامان السبب الرئيس لهجرة الكثير من سكانها الاصليين ، فاصبحت مرتعا للمافيات وتجار المخدرات .
وزحف عليها عشرات الآلاف من المناطق الريفية والبدوية بعد نزوح اهلها .

وهكذا تم ترييف المدينة وزحف البداوة اليها فانتشرت العادات القبلية والعشائرية البعيدة عن التمدن فيها ، وانحسرت كل مظاهر الحضارة والرقي عنها
بعد غياب التخطيط العمراني والبنى التحتية وانتشار البسطيات واطفال الشوارع والمتسولين وكثرة النفايات وانعدام منظومات الصرف الصحي وتدمير منشآتها المدنية والثقافية وسرقة اثارها ونفائسها التاريخية ، فاصبحت مدينة متداعية بكل معنى الكلمة .

لقد سمح للطارئين بالتجاوز على بغداد والتحرك بحرية في البناء بعيدا عن التخطيط ، وتخريب ماتبقى من شوارعها واحيائها ، واصبح الكثير منهم فوق النظام والقانون . 
فاختفت مظاهر المدنية عنها وتقهقرت امام عملية الترييف والبداوة المتواصلة ، واستبدلت هويتها الوطنية العامة بالانتماء العشائري والمناطقي ، والتعصب الديني والطائفي .

ومن مظاهر ترييف بغداد ايضا ظهور تجمعات على شكل أحياء منعزلة يقتصر سكانها على عائلات وعشائر معينة بسبب ضعف الاندماج في المحيط الحضري المتمدن .

ومما ساعد على تدهور الحالة المدنية لهذه المدينة العريقة اهمال التصميم الاساسي الذي وضع لها للحفاظ على تمدنها وتطورها بشكل علمي ومخطط سلفا، بموجب قانون التصميم الاساسي لمدينة بغداد رقم (156) لسنة 1971. مما تسبب في التجاوز على المناطق الخضراء واستغلال الشوارع والساحات العامة لاغراض البناء او لاغراض تجارية . فانتشرت العشوائيات بشكل شوه جمالية المدينة ، واصبحت بيئة خصبة لنمو وانتشار الأمراض الاجتماعية الخطيرة، مثل زيادة معدلات الجريمة، وانتشار الفقر والأمراض، وإنحدار التعليم والثقافة، وتقليص مساحة الطرق، والاختناق المروري، مع الاصرار على اضعاف قدرة الدولة لتوفير شبكات النقل العام .

انه لشعور محبط ومخيب للامال ذلك الذي حدث ويحدث لمدينة بغداد درة العراق ، وتاج الحضارة والتاريخ المجيد .

بغداد حاضرة العالم العربي الاسلامي ، المدينة التي كانت مثالا للتمدن والثقافة والتماهي بين العمران والانسان ، وكانت قدوة للدول المجاورة وذات صيت عالمي كبير ،  كيف آل مصيرها الى مثل هذا المستوى المتدني حتى صارت في الدرك الاسفل من دول العالم  .

حصل كل ذلك بعد ان سلمت هذه المدينة العظيمة الى الغرباء والى ايد مخربة غير امينة وجاهلة ، بل حاقدة . تدفعهم رغبة للانتقام منها وافنائها وتشويه سمعتها وطمس تاريخها التليد .

ان مانشاهده من مظاهر التدهور الفضيع لمدينة بغداد على مدى سنوات طوال يدل على  التخريب المتعمد ، والرغبة في اذلالها بعد تهجير اهلها بقصد تشويه تاريخها وثقافتها وحضارتها وابعاد علمائها ومثقفيها وفنانيها عن ممارسة دورهم الحضاري فيها ، ومازالت بغداد تئن من الضربات الموجعة وتتخبط بالازمات المفتعلة .

ان الحاق الاذى لبغداد لا يقصد منه تشويه سمعة المدينة وطمس تاريخها المجيد فقط ، بل ومن خلال ذلك اضعاف العراق وإنهاكه وتدمير مستقبله. 
ولكن هذه المدينة التي استعصت على الاعداء على مر الزمان ، سترى النور مجددا بعد الظلام الدامس الذي غلفها بغلافه القاتم ، وستعود الى سابق عهدها حاضرة الدنيا ، وجميلة الجميلات بسحرها والقها وعظمتها .