مصدق العلي يكتب: ضياع تشرين
يسكن قريبا مني قط جميل. اسميته مخطط. هذا القط الجميل تم إنقاذه من مصير محتوم وايوائه في ملجأ للحيوانات الشاردة لحين تبنيه. يتكلم مخطط بثلاث احرف فقط، ليجمعهن في كلمة واحدة وهي (ميو), ويستعمل هذه الكلمة للتعبير عن الجوع او العطش او الضيق او أي طلب يريده من الاخرين. يسهل فهم مخطط عند سماع موائه كون الذين ينصتون لمخطط، ينصتون بنية المساعدة وأداء الواجب.
وعلى العكس من القط مخطط الذي يحمل مواصفات مواطنةٍ يفتقد رفاهيتها الكثير، من اخوتي في العراق والملايين من سكان المناطق التي لم يفي حاضرها التعس لنصوع ماضيها العلمي والثقافي والإنساني، لازال سكان العراق يعانون من تصارع الاحداث حولهم وبينهم، فمآبين استهداف المجاميع الإرهابية لهم في الطرقات والأسواق حجمط الثاني على التوالي، وما بين سوء الخدمات وبشاعة الواقع المعاشي بكل صوره مقابل الأموال الهائلة التي تدخل لخزينة الدولة ولا يعلم على وجه الدقة اليات صرفها؟
نزل شباب وبذلوا دمائهم في حرب طاحنة ضد التنظيمات الإرهابية وهم مسلحون باللمم من المعدات وبما لا يتماشى مع ميزانية الامن الهائلة، والتحق بعضهم تطوعا. قَلَّت الاحداث الإرهابية بدرجة كبيرة بعد النصر المنقوص (فنقصه يعود لأسباب كثيرة أهمها عدم عودةَ من نزحوا بسبب المعارك الى ديارهم الى الان رغم مرور سنين).
نزل الشباب في مظاهرات تلو الأخرى للمطالبة بإصلاح شامل وهم على العكس من مخطط الهر، يمتلكون القدرة على الكلام وحالهم الرث يُرى بغير اكتراث ممن اعتلى الاسوار بجنح الليل او كما تصفه الوسائل الإعلامية بدقة من" تسنموا" المناصب. تحول التظاهر الى غضب عارم وسقط ضحيته الالاف فيما سمي بثورة تشرين او ما يسميه أنصار النظام السياسي الحالي ب " عورة تشرين". هي عورة لمن تعرى بسرقة اهله واذاهم وصَم الاذان والقلوب عن حقهم، فالحق حق في نفسه لا لقول الانفس التي اعماها الكِبَرُ والمال له. استمر قمع المظاهرات حسب المعايير الدولية بقنابل الغاز المسيل للدموع، لكن لسوء القَدَرِ او ان صح القول: ان من يستورد جهاز كشف متفجرات كاذب لسنين لن يأتي بخير، فقد اكتشف المتظاهرون ان هذه القنابل المسيلة للدموع هي عسكرية الاستعمال فتهشمت جماجم الشباب ووجوههم بوحشية نتيجة استعمالها. بل وصل الامر لأطلاق الرصاص على المتظاهرين العُزًّل من قبل " مجهولين" وصفهم الخطاب الحكومي المهزوز بال " الطرف الثالث", وتدخلت قوات الجيش لحماية المتظاهرين في مرات كثيرة لينشد الجموع بديلا عن انشودة (فليح الما مستقر) بأهزوجة (الجيش سور الوطن).
وصدح أحد الشاعر الشعبي العراقي الأبرز المرحوم سمير صبيح بابيات مطلعها:
هاي شكم سنة گتلك كتلني الجوع
اتبوگ اموالنه وعد غيرنه اتعمر
مثل چنه ام خلف شغل الحكومة وياي
لجارتهه التعب وابيتهه اتكسر
ما زاد الطين بلة هو دخول الاحداث بصراع دولي واستهداف القوات الامريكية قائدا عسكريا إيرانيا على الأراضي العراقية بعملية نوعية جراحية أدت الى الرد بقصف القوات الامريكية في قاعدة عين الأسد العسكرية والتي لم يعلم الكثير من العراقيين عن تواجد القوات الامريكية فيها ضمن اتفاقية دفاع مشترك طوال عقد من الزمان!
وفي النهاية، اضاعت الحكومة والأحزاب والتيارات المتأصلة في الحكم ما بعد 2003 الفرصة التي لا تعوض بسماع الشباب والانصات لهم بنية الإصلاح وامتصاص الزخم الشبابي الرائع لبناء تعبئة سياسية شعبية لتحقيق نهوض عراقي، وتقهقروا لينهالوا على الشباب شتما واستهزاء. فتجد بوقا ينشر صورة لاحد الشباب الفقراء وهو رث الثياب ويأكل المتيسر من نِعَمِ الرحمن، ويقول مستهزئا (كيف لهذا ان يبني وطنا!). وعند البحث أجد هذا الشخص المتأصل بالدفاع عن " الطرف الثالث" حاصل على جنسية اوربية ومتمترس خلف "قوانين حرية التعبير" الاوربية بالتحريض والتنمر على العراقيين!
عند وجود النية للإصلاح فحتى الإشارة ستكفي الحليم للفهم، وكما ذكرت في مثلي الأول عن الهر مخطط. اما ان أقفلت القلوب وصُمت الاذان (تحت أي حجة عقائدية او دينية او مادية كانت) عن سماع بليغ النداء وواضح المطالب، فلا تغير للحال بمخاطبتهم. يبقى النداء خير من العنف لكن البناء الشعبي للدولة خيرٌ وأبقى.
امل في النهاية ان تتدارك الفواعل السياسية هذا الامر فالعراق المستقر والمزدهر خيرٌ للمنطقة باسرها.