عبد الحميد الصائح يكتب: الانحياز اللاشعوري في حضرة مونديال قطر
يجهد الكثير ليجعل من تحيزه لجهة دون أخرى شأناً واعياً عقلياً فيختار ان يكون مع فريق ضد اخر.. لكن ذلك لايمكن أن يصح تماماً امام نزوع داخلي عفوي نتيجة سمات وتراكمات غالباً ماتكون خارج سيطرته العقلية، تلك التي تجعل من تحيزه لا إراديا حتى وان قرر عكس ذلك.
لن نسوق هنا أبعاد النظريات النزوعية النفسية واحكام الوراثة في مقابل احكام البيئة التي تبناها السلوكيون وهو امر ممتع المتابعة ، لكني ساتوقف عند مبدأ الهوية الجماعية ، كيف تتسع وكيف تضيق وكيف تتحكم بالانحياز اللاشعوري، بأمثلة بسيطة فرضتها مباريات كرة القدم التي جرت وتجري قبل وخلال مونديال قطر الذي جاء بتجارب متنوعة في هذا المضمار .
حين تشجع نادي الشرطة فانك تتحيز له ضد فريق الزوراء بل تتعصب احيانا ضد لاعبيه.. لكن هولاء حين يكونون ضمن فريق المنتخب تضمر الهوية الصغيرة أمام هوية اكبر، فتذهب تلقائيا الى تشجيع المنتخب والرفع من معنويات لاعبيه جميعا بما فيهم اولئك الذين يلعبون أساساً في فريق الزوراء.
وحين يلعب العراق مع ايران من الطبيعي ( النفسي ) الانحياز الى العراق، وحين تلعب ايران مع كوريا او البرازيل فانك نفسيا تنحاز اليها ، وحين تلعب السعودية او المغرب مع ايران فانك نفسيا تنحاز اليهما حتى وان قرر عقلك لاسباب خارج الكرة عكس ذلك .
فلاشأن للأمر اطلاقا بالخيار العقلي ، حتى حين كنا في المعارضة وكان فريق العراق يوصف بانه فريق عدي ، نفسيا كنا نميل الى فوزه .
حتى الانحياز بين دولتين بعيدتين او ناديين مثل برشلونه وريال مدريد، او ليفربول ومانشستر ستي مثلا ، لايمكن ان يكون قرار الانحياز عقلياً دون نوازع نفسية لاشعورية لكنك تجد لها مبررات عقلية.. فهناك دوافع نجهلها تبدأ معنا منذ ان نكون اجنّة في الارحام حسب فرويد ، وهناك تماهٍ مع الجماعة وشعور نحو هوية الجماعة الصغيرة والجماعة الاكثر اتساعا حسب تاجفيل ، ولا يبعد ذلك كثيرا عن السلوك الانتخابي في الحياة السياسية، وهو موضوع قادم ان شاء الله.
وعليه فانك وان عرفت بان المغرب بلد لا يسمح للعراقيين بدخوله وانت متنعم في اجواء وحياة وقوانين وسياسة فرنسا ،حتى لو قررت عقليا ان تنحاز الى فريق فرنسا ضد المغرب في مبارياتهما الحاسمة فانك في ( تناشز معرفي ) حسب فستنغر لان داخلك الذي لاسيطرة لك عليه يميل الى فريق المغرب . وقد راقبت اطفالي الذين يتابعون المونديال للمرة الاولى بعد نضوجهم دون ان يعرفوا خلفيات سياسية أوغيرها كيف مالوا الميول الذي تحدثت عنه ، انها من اسرار النفس البشرية واسرار كرة القدم التي اصبحت مادة للدراسات النفسية والمجتمعية وهي تشغل العلماء والناس الى ابد الابدين.