داليا الحديدي تكتب: أتقبل الرحيل جاهلًا الفرق بين بواعثك ومقاصدك؟
البواعث أخت المقاصد إلا أنهما إخوة غير أشقاء، كما يمكن وصفهما بوجهان لعملة من نفس فئة سلة العملات الفكرية إلا أنهما من العملات الكاسدة. و قد تراهما متشابهان كتوأم ملتصق، لكن من أجل توضيح البيان وإزالة أالإلتباس في المعاني، يجب الفصل بينهما دون وأد.
المعضلة أننا لطالما وقعنا في خطأ الخلط بينهما لفرط تشابههما، حتى أن البعض تعامل مع المقاصد والبواعث على أنهما كيان واحد له نفس المعنى، أو كزوجين لا يجب إيقاع الطلاق بينهما.
ولا يحاول عوام البشر معرفة الفروقات بينهما، بل الأغلبية يرادفونهما، وقلّ من يخطر بذهنه أهمية البعد فاصلة عن ذاته للتقصي عن كنه بواعثه، كما نبتعد هنيهة عن المرآة لنستبصر أنفسنا بشكل أوضح.
العجيب أننا نادرًأ ما ننتبه لبواعثنا أو نركز في مقاصدنا، وربما عشنا العمر بلا بواعث أو مقاصد
رُغم أن "البواعث" كنه القلوب كما النواة كنه التمور.
والبواعث سابقة للمقاصد بخطوة داخل النفس، كأسبقية النظر للبصر،" فنَظَرَ، فبَصَرْ"، فمثلًا باعث الشفاء يدفعك بدايًة لقصد المشافى.
وسأسلك في توضيح الفرق بين البواعث والمقاصد نفس منوال العقاد حين فرق بين السلوى والأمل.
فقد تُنسب المقاصد والبواعث لأب واحد هو الإرادة، أما أمهما فهي الوسيلة.
ورثت البواعث من جينات والدها، قوته وغموضه وحنكته في التخفي بأشكال مستترة أكثر مما أخذت من وضوح مقاصد أمها وقدرتها على التشكل، التنوع والتلون.
فبواعثنا استعارات مكنية، فيما تنهض مقاصدنا كتصريحية.
فالبواعث دوافع تحفيزية لنيل المقاصد، فهي النواة وهي البذور لا الثمار والبقل.
هي المحركات بينما المقاصد تعد وسائل، وإجمالاً تكون بواعثنا خفية، بينما مقاصدنا، فجلية.
فقد تقصد سيدتين المجمعات التجارية: الأولى باعثها التسوق للربح المادي، فيما الثانية باعثها التريض للربح المعنوي، والمرأتين قصدتا المجمع ذاته، الأولى، انتهازًا لفرصة العروض الترويجية، والأخرى للإفادة من رحابة المكان المكيف لتسهيل التريض.
إذن، فرغم اختلفهما في البواعث إلا انهما اتفاقا في المقاصد.
وبالمثل، تلجأ زوجتين محرومتين من الإنجاب لكفالة أو تبني طفلاً، فتكتم احداهما على اليتيم حقيقة كونها ليست أمه البيولوجية، فيعيش لها الكذبة وتغرقه في الخديعة، وتمثل أمام الجميع أنها تلقمه ثديها للرضاعة و تظل تؤكد اندهاشها من التشابه بين شكل اقدامه وأقدام والده.. وقد توكل أختها أمر إرضاعه للتحايل لشرعنة الواقع. ولربما اشترته من والدته مقابل حرمانها منه. فقد قصدت بتبنيه إشباع حاجاتها هي فحسب بباعث خلطت فيه أنانيتها مع اكرامها لليتيم ، لكنها حرمت الوليد من حقوقه في معرفة أصله، اقاربه وماضيه.
بالمقابل، تقوم سيدة محرومة أيضاً من الإنجاب بمجرد كفالته –لا تبنيه- فترعاه وتسكب عليه من مشاعر الأمومة والحنو وتستمتع بتربيته، لكن مع فارق جوهري هو حرصها على مصارحته بكونها ليست الأم الحقيقية بل قد تذكر اسمه في اعلانات النعي" عم الابن المتكفل به فلان الفلاني". كذلك، أولت عناية لعدم تقويض علاقته بأهله، تماماً كما فعلت " آسيا بنت مزاحم" مع موسى، فاستحقت لقب "سيدة نساء العالمين"، وحازته في حضرة وجود السيدة "يوكابد" و هي أم لرسولين هما هارون وموسى، كمان كانت وزوجة عمران حفيد لاوي بن يعقوب. وعلى صلاح "يوكابد" ، إلا أنها لم تنل اللقب في حضرة وجود إمرأة كآسيا.
فمن تكفل طفلاً تتفق في مقاصدها مع من تريد تبني رضيعًا، لكنها تتباين معها في الباعث. حيث كانت الأنانية باعثًا للثانية بقصدت طريق الخديعة والتلاعب بالأنساب والمواريث، لتعوض نقصها حتى لو لم تعنيها الأمور المادية، فيما تقنع من تريد الكفالة بدور الأم الثانية كون باعثها الرحمة، ومن ثم، فلا تلجأ لمقاصد خفية لتخفي حقيقة أنها مجرد أم بديلة بالكفالة.
..
مثال أخر أدهشني حين طالعت يوماً فيديو سجلته فتاة متحررة أعلنت أنها تنكر الأديان، لكنها مع ذلك لا تقارع الخمر لأنها تؤمن أن الشخصية "المثيرة" لا بد أن تتحكم في رغباتها أكثر من سواها من الشخصيات العادية.
لذا، فباعثها كان أن تبدو "مثيرة " وقصدت في ذلك وسيلة لفت النظر لملكتها في التحكم في رغباتها.
قلما نفرق بين بواعثنا ومقاصدنا، مع أن البواعث تقوم مقام "النية" من العبادة
ومع أن النية ثلث الدين، إلا أن بواعثنا لا تشغل ثلث اهتمامتنا!
فقد يتنافس شابان في دراستهما، فتتحد المقاصد في مسعاهما للإلتحاق بواحدة من جامعات القمة، رُغم اختلاف بواعثهما، فأحدها باعثه الشغف لتحصيل العلم، فيما باعث صديقه نيل شهادة علمية ترونقه وتؤهله للقفز على درجات السلم الإجتماعي ليثبت أفضليته في محيطه. وقد تراود هذا الأخير أحلام يقظةً للنهارالذي سينزل فيه عميد الكلية لإستقباله بنفسه وسط تصفيق الجميع. وربما صمم سلفاً "بطاقات العمل" المكتوب عليها لقب "الأستاذ الدكتور عميد كلية"، لتبروز مكانته العلمية!
أيضًأ نجد زوج يداوم في مقر عمله لتوفير حياة كريمة لأسرته.
بالمقابل، ترفض زوجته الوظيفة لأجل تحقيق حياة أشد أمناً لعائلتها
فوحدة باعثهما تحققت رغم إختلاف مقاصدهما.
حتى الشعراء خلط البعض منهم بين بواعثه في الحب ومقاصده.
فلقد اسرف بعضهم في الإعراب عن حبه للمرأة، فيما اعترف البعض الآخر باستخدامه للنساء كشواحن لتعبئة قرائحهم الشعرية لاستقطار معاني الصب من شهد مناحل معاناتهم في الحب
لقد صدمت مما كتبه " قباني":
ولست أحبك كي تتكاثر ذرّيتي
ولكن أحبك كي تتكاثر ذّرية الكلمات
ثمةفي رائعته
"على هذه الأرض ما يستحق الحياة"
عدد "محمود درويش" أشياء تستحق أن نعيش لأجلها، جاء على رأسها
: " أول الحب" لا كله
فأكم من شعراء زرعوا حباً غلولاً، ليحصدوا شعراً "بالفايظ" أي بالفائدة كي يتوجهم ملوكاً للضاد، ولو على جثة مشاعر امرأة مكلومة في قلبها
لقد اغتنموا في مخيلاتهم النساء كسبي الروم،لإشعال قرائحهم الشعرية بنظم أخلد القصائد مضافاً إليها متع و شهوات غير مكلفة!
لم يكن باعثهم حباً خالداً، لكن كان الباعث قصائد خالدة تحقق مجدهم، فقصدوا درب الحب.
لذا اعترف درويش أنه انتخب من الحب أوله اللذيذ، الشهي بقشوره البراقة، فيما هجر لبه، مسئولياته وتبعاته فلم يقصد الاستمرار بطريق الزواج لرفضه تحمل مشقة رعاية أسرة وأطفال.
عصارة القول، قصد بعض الشعراء إقامة علاقات مع النساء وكان باعثهم إزكاء وتتويج ملكاتهم الشعرية فحسب، فتمسكوا تمسكاً واعياً بمرحلة الشغف أو أول الحب، تماماً كما يفضل صغارنا ما يعرف ب ال
Topping or Icing
أي القشطة التي نزين بها أعلى الكعكة، فيلتهمها الصغار كون طعم "الأيسينج" محض سكاكر لذيذة، و إن عدمت الفائدة الغذائية، على أنهم يتركون لب الكعكة الذي يحوي القمح والبيض والحليب المفيد
كذا، يقصد بعض الشعراء أول الحب لأنه عصارة الشهوة، وخلاصة مسك المتع، لكنهم، يهربون من الإستمرار في علاقة زوجية لما لها من تبعات اجتماعية ومادية مرهقة، وإن كانت مفيدة لهم كأفراد وللمجتمع ككل، لكنها مقيدة لانطلاقهم كشعراء.
..
ولو ادركت المرأة الفرق بين البواعث والمقاصد لما عيرت شريكها بعجزه عن الإطراء ولما تحسرت لأن القدر حرمها من زوج رومانسي كمحمود درويش، فالأخير كان يحب "أول الحب"
أي القشطة المحلاة، "الأيسينج" أو المرحلة الخالية من المسؤليات والإنفاق والبذل، فيما زوجها قد يكون مرهقاً بشراء الطحين، الحليب والبيض لإطعام أهله بوجبة نافعة ومغذية، ولكنه لكثرة أعبائه، قد ينسى تزيين الكعكة بالقشطة.
..
و لو جاز للبسطاء الخلط بين مقصد وباعث، لكن المدهش هو تفشي تلكم البلبلة بين أوساط المتعلمين وإن كانوا أطباء!
فعلى سبيل المثال، هناك من يعالج مرضى "الشره" على أنهم مرضى سمنة، فيداوي الطبيب مريضه من العرض بإجراء جراحة طبية، فيما يستبقي على المرض الكامن وهو "الشره" لينمو في كيان المريض؛ بل يصل الأمر ببعض خبراء التغذية بالتباهي بأنظمة غذائية تتيح للمريض التهام وجبات تحتوي على سعرات مهولة، ضمن نظم كيميائية ضارة، لكن تخفض الوزن، ما يشي بأن الطبيب يغذي فيروس الشره لمريضه بالقضاء على عرض السمنة مع استبقاء غول الشره!
بقولٍ أخر، بعض خبراء التغذية يدعمون شره المريض ولا يلفتونه لضرورة علاج الشره لوجود خلل في بواعثهم الساعية لتحقيق شهرة من خلال خفض وزن سريع.
فالطبيب النصف متعلم اصطلح مع المريض نصف الجاهل على إزالة عرض السمنة عوضاً عن علاج داء الشره.
مثال أخر لرجل يعود زميله المريض ويكون باعثه ارضاء الله، فيقصد زيارة المريض بالمشفى، فيما يتوجه رجل آخر لذات المقصد او المشفى مصطحباً زوجته لعيادة قرينة زميله، إلا أن باعثه لا يعدو أن يكون تحميل (جميل) وتقديم سبتًا إنتظارً لأحآد!
كذلك قد يزور أحدهم زميله بالعمل بدعوى إهدائه من ذبيحته؛ فيقصد داره معلنًأ نيته الخيرية في مشاركته فضل الأضحية، بينما يكون الباعث الرئيس هو معاينة مسكن زميله الجديد لمقارنة ما قدمته الوظيفة لكليهما من مسكن. وشتان بين الباعثين على وحدة المقصد!
إن من يخلط بين مقاصده ببواعثه كمن أدى صيامه لا يعلم افرض في رمضان أم تعويض في سواه ،أو كمن لا يأبه لصلاته، ناسيًا أعصر هي، ظهر، أم عشاء
الأمر يتعلق بمدى صدقنا مع خالقنا ومع أنفنسا لتحديد مشروعية بواعثنا وكنه مقاصدنا في دنيانا. فلا غرب أن أول من تُسَعر بهم جهنم يوم القيامة هم :" شهيد، قارئ قرآن ومتصدق"، جَمَعَهُمْ مقصد الرياء وحب السمعة بين الخلق، لا باعث إرضاء الله.
إن استبصار بواعثنا أمر ليس هينًا لكن الأصعب هو اعترافنا بها، وإن لم نفعل، فسنكون كمن حبب إليه النفاق، فتربع بنفسه على باكورة من خدعهم.