أحمد سلامة يكتب: الهوية.. بين الصحراء والنيل وهضبتي تركيا وإيران
جلست لاحدى القنوات الفضائية، ابصر بكل يقظة مجاميع العشرات من الالاف الذين تظاهروا يوم السبت في شق القدس الغربي وكل تل ابيب والمسروق من حيفا الذي فر من بين ايدي العرب فاضحى لـ (يهود).
أكثر ما توقفت عليه ان واحدا لا يشبه اي واحد آخر في هذا الجمع الضخم، وكل ما يجمعهم الرفض لتلك الاستباحة من اخوتهم في الدين، الذين باشروا للتو صهر المجتمع (المثلج) يهوديا على درجة حرارة تناسب (الحريديم)، وباليقين فانه صائر الى شيء اخر.
ساعود في الختام الى مالات هذا التجمع (الورطة اليهودية) التي دخلت في مساماتنا رغما عنا وعلينا نحن واجب فكفكة هذا اللغز اليهودي واعادة انتاجه.
لكن الذي حفزني عن التخلي عن الصمت العاتب منذ ان شاهدت صهاريج النضح تصطف على المدخل الغربي لعمان في ظرف اكثر من موجع، ومن ثم زوالها. والحق انني لم اقتنع بسبب اصطفافها ولم استسغ من وراءه، وحمدت الله ان انتهت على ما هو معروف. لكن هذا العتب ساقوله وابوح به حين تصبح ظروف الوطن قادرة على احتمال شكاوانا من بعض بعضنا.
ما أخرجني عن صمتي هو سؤال الهوية!
إن انفجار الاكوان اليهودية التي بدت وكانها عالم بعيد في طريقة ادائها الاحتجاجي لا بد ان تهزنا هزا حقيقيا لإيجاد جواب لسؤال الهوية. فإن كان اليهود قد وصلوا مرحلة من الدرك الواطي في مواجهة بعضهم بعضا حد الاشتباك وكان السبب سؤال الهوية!؟ اوليس من حقنا ان نعاود نبش وتأصيل مازق الهوية في بلادنا؟!
وقبل ان يظن احد الظنون ان لدي الرغبة في الانضواء تحت يافطة الحوار الطفيلي العابث الذي تورط مجتمعنا فيه قبل فترة في ايجاد انصار ل (الهوية الجامعة) ومن ناقضهم في غير ذات هذا المعنى. فانا لم اكتب حرفا في معمعان المواجهة بين الفسطاطين وساظل بعيدا عن هذا اللغو الذي يحزن ويثير الشفقة اكثر مما يشكل عنصر اثارة جاذبة للمشاركة فيه.
بوضوح.. انا هويتي عربية الجغرافيا، اردنية المرتكز، هاشمية الرسالة. والعربية عندي مطلقة على هيئة اقاليم. واقليمي هو كل بلاد الشام الذي يعاني من مازق الهوية والتباسها. اذ ان وجود كيان لليهود على طرف الطرف في الكتف الشامي (فلسطين) يشكل تحديا لمعنى الهوية الشامية، ويحرم الشام من ان تمد لسانها صوب النيل فتتلمظ بمائه، ويحتاج ذلك الى حل.
ان وجود كيان طائفي ترقيعي من دون اي معنى سياسي سوى التعبير عن الذات في مرحلة ما قبل الدولة (لبنان) قد وصل الى مازق تاريخي والاخر يحتاج الى حل..
لقد تشظى الجزء الاهم في بلاد الشام (سورية) الى حالة متقدمة في الدمار والتراجع، فلا الدولة السورية بحالتها الراهنة بقادرة على اعادة احياء فكرة الوطن السوري واسترجاع ألقه، ولا مجموعات الرفض التي انقضت عبر تحالفات مشبوهة لتمزيق الكيان بحال افضل من قيادة الكيان. ويحتاج السوريين الى من يعينهم في الرجوع، على اقل امل، إلى ما كانوا عليه قبل الانكسار الكبير.
والصورة الفلسطينية الموجعة ما بين قذارة أشد احتلال في التاريخ قبحا والدماء الفلسطينية اليومية التي احالتها شجاعة الام الفلسطينية حد البسالة الى نهر من دموع، تتبدى صورة الهجرة الفلسطينية التي تعلمت درس الطائفية في لبنان واستعذبته الى الصيغتين (فتح الضفة / وحماس القطاع).
ما اقسى هذه النتيجة التي قادتها حركة المقاومة الفلسطينية في تمويل باذخ غريب من طغيان الصحراء على بلاد الشام فجاءت هذه النتيجة لثورة كان الدولار النفطي يسابق الكلاشنكوف على الدور! وكل ذلك ماساة تحتاج تفكيرا جديدا.
وبقي من هذه الصورة المشوشة للغاية (آخر تلم عربي للعرب) مملكة الحب الاردنية الهاشمية. هي الدولة الوحيدة التي لها حدود مدركة، وهي الدولة الاولى في اعرق سلالة حكم تصدت لحمل مسوولية اتمام مكارم الرسالة النبوية بالجمع بين شرعية السلالة، وشرعية العقل. ولها جيشها الذي يحمل عبء مسؤولية الوصف انه (المصطفوي) في منطقة لا تحمل جيوشها صفات واضحة المعالم.
لكن هذه الدولة تنوء بحمل تهتز من تحت مثله الجبال الراسيات. الاقتصاد في مازق وادارة الدولة تبحث عن حلول ازمتها من اناس هم سبب ازمتها الادارية، واثرياؤها جلهم بخلاء لم يشربوا قهوتنا فنسالهم ماذا نريد منهم، وتشويش من بعض داخل الاروقة المرموقة، لا يستطيع حكيم او وطني ان يرى فيه اي ضرورة. وكل ذلك يحتاج الى حلول حاسمة.
هذه هي معالم جغرافيتنا التي نسعى الى تعريفها. لكن السؤال التاريخاني: ما الذي يحيط بنا!
ثمة هضبة تدينية في شرق الشرق اسمها (ايران) تفادت التصادم مع الغرب، لكني اشم رائحة خطأ الشهيد الفذ صدام حسين حين اقدم على اعدام (بازوفت) العميل الانجليزي السافل الذي اودى مقتله بكل العراق.
عقب اعدام نائب وزير الدفاع الايراني، ثمة ظلال وغيوم تتلبد فوق الهضبة الايرانية، ولاول مرة في حياتي اتمنى ان يجنبها الله مواجهة الغرب المتعالي والمجنون حقدا على العروبة اولا والاسلمة حكما !
هذه الهضبة لها هويتها ان كانت فارسية في جلباب قورش او شيعية مع خلطة خاصة تضيف الى الاثنا عشرية بعض امال زراديشت، وهرطقات مزدك، واحزان اعدام ابو مسلم الخراساني.
وهذه الهضبة تزنرت بمشروع تصدير الثورة الاسلامية من زاوية شيعية لكل ارجاء المنطقة، فانتفض في وجهها بكل دهاء الصحراء الذي يلثم الوجه لاخفاء الملامح ردة فعل سلفية وهابية جارفة، واضافت لمشروعها المناقض للهضبة بعض مذاق للنفط وامكاناته. والتحالف مع الغرب بتجليه الامريكي الذي جعل من داعية نبيل مثل عبدالله عزام حاملا (بقجة امريكية تضمنت صاروخ ستنغر ورشاش ام ١٦ وحفنة من دولارات سعودية) لصناعة قاعدة تعمل على هزيمة السوفيات في افغانستان وقد اتبع ذلك الواعظ بسطوة اسامة بن لادن وقوة الدكتور الظواهري والملا عمر، وشكل هذا المربع الذهبي امريكيا جوهر الرد وجوهر الردع لمشروع الهضبة الايراني. لقد تمكنت الصحراء العربية لما تتوافر لها من امكانات دهاء وحنكة التسرب الدخول باستباحة الى كل مراكز النفوذ ووقفت في وجه الطغيان الفارسي بطبعته الاسلامية المتشيعة؛ بل اجتذبت ركنا كان غريبا بقبول تحالفه مع الجزيرة في وجه الهضبة الايرانية اذ اقدم نظام البعث العتيد في العراق والذي نصف شعبه من اتباع مذهب الهضبة والنصف الاخر بعقيدة قومية عبر منهج البعث الى التحالف مع الصحراء العربية.
وبدا ان دحر الهضبة وتحجيمها بات موكدا على ابواب نهايات الثمانينات من القرن الفارط، لكن تبين ان القصة اعقد من ذلك بكثير !
وكان في قرنة اخرى هضبة تنتظر دورها على صورة بطل اسلامي بعباءة سنية وموشحة بارث امبراطورية ادعى المنحازون لها انها كانت موحدة وحامية للعرب. كانت العثمنة بطبعتها الاوردوغانية قد وضبت نفسها لتقود الهضبة الشيعية والصحراء الوهابية بطريقتها الخاصة.
هذا الفضاء الشرق اوسطي لن يكتمل قبل اضافة (هبة النيل مصر) الى المشهد.
فمصر راحت تعبث مع القدر وتقطعت السبل فيها على نحو مفاجىء. فالمباركية رغم كل ما قيل راحت تبحث عن صيغة بين (جمال الابن وحزبه، والجيش وسطوته) وفي اتون ذلك الصراع (تمكن الاخوان الاوبامويون) من التسرب عبر كل الثقوب والاجهاز على كل مبارك، وبدا لوهلة ان مصر ستتبع الاوردوغانية من جديد!
وراحت الدولة المصرية التي تضم أعرق جيش واهم ازهر وانضج تجربة تبحث عن صيغة بقاء، واستسلمت منسحبة من اي دور له قيمة.
وان التاريخ المصري والعربي سيظل يذكر لعبد الفتاح السيسي ايمانه وبسالته، ولسيدنا الامام الطيب شيخ الازهر مغامرته وتقواه، ولزعيم القبط المجيد الذين وقفوا خلف جيش مصر وقائده التاريخي عبد الفتاح السيسي الذي شد لجام مصر وبدت كانها مهرته التي تستجيب بمودة لامتطائه السرج، فاضاء السراج وعاد النيل من جديد يروي لنا الحكايات الحلوة المذاق.
لا يستطيع عاقل او موضوعي انكار وقفة الصحراء مع النيل في استرداد الزمام بغض النظر عن الدوافع فان (البحرين ومليكها، والرياض ومليكها عبدالله بن عبد العزيز، وابو ظبي وباعث وهجها محمد بن زايد) قد قدموا اكسيد النجاة لحركة الجيش المصري العظيم في تغلبه على الفقر والضعف الاقتصادي وسداد الديون.
ثمة إذا هضبة شيعية فارسية وهضبة عثمانية اوردوغانية ونيل سيسي في طريقه ان يتبوأ موقع الشراكة بقوة الجيش وليس بضعف الجنيه، والصحراء العربية.
ألف سؤال حائر على مسار المنطقة ولا اقول مصيرها، فمصيرها يحدده القدر وابناء امة العرب.
كيف يكون ذلك؟ في المقالة القادمة عن الأوراق الأردنية التي لم توضع على الطاولة بعد.
نقلا عن “عمون”
ملحوظة..
"المقال يعبر عن وجهة نظر كاتبه وليس بالضرورة يعبر عن وجهة نظر الموقع"