لطيفة الدليمي تكتب: اللهم زدنا من مال العراقيين!!
لن أنسى أبداً تلك السيدة الألمانية التي راحت تحكي في قناة DW الألمانية عن معاناتها مع الأزمة المالية التي ضربت العالم عام 2008 بفعل المضاربات اللاعقلانية والسياسات النيوليبرالية غير المحسوبة للسوق الامريكية المنفلتة. كانت السيدة تتحدث بوقار سيدة سبعينية والدموع في عينيها:
(خسرتُ كلّ شيء. خسرتُ مُدّخراتي التي ذخرتها لتكون هدية لحفيدي بعد مماتي. )
حكايتُها – ببساطة - أنها وضعت مدّخراتها التقاعدية في مصرف آيسلندي لأنه كان يمنح زبائنه عوائد مالية عالية لامثيل لها في المصارف الالمانية. ليس من شيء مجاني في الاقتصاد – والحياة بعامة – إلا الحبّ الحقيقي. إنكشفت الحقيقة المُرّة بعد حين. كان المصرف الآيسلندي يتعاطى تعاملات مصرفية عالية الخطورة في السوق الامريكية، وعندما إنهار النظام المصرفي الامريكي راح التسونامي المالي يبتلع مدّخرات كلّ من تعاطى مع هذه المصارف أينما كان في العالم. ضاعت مدّخرات السيدة الالمانية مثل مليارات سواها في جوف غول أمريكي جشع كافأ من تسببوا بهذه المأساة الكارثية وترك ضعفاء البشر يلعقون خساراتهم وهم عاجزون عن فعل أي شيء.
لعلّكم ستفترضون – مثلما فعلتُ أنا – أنّ السيدة الالمانية فقدت بضعة ملايين من الدولارات. أبداً. كلّ ماخسرته هو عشرون ألفاً من الدولارات. صحيحٌ أنّ خسارة المال – وبخاصة المال المصنوع بجهد حقيقي – مؤلمةٌ أيما إيلام حَدّ أنّ مثلاً سائراً لدينا يقول أنّ (المال من الكبد)، وأنّ مثلاً تركياً يقول (أمران لامزاح فيهما: المال والموت)؛ لكن برغم هذا تملّكني العجب أن تذرف سيدة ألمانية هذه الدموع في بلدٍ يبلغ ناتجه القومي السنوي مايفوق خمسة تريليونات من الدولارات. الترليون هو ألف مليار!!
إرتسمت هذه الواقعة أمامي وأنا أقرأ أخباراً متضاربة عن قيمة تذكرة حفل الفنانة اللبنانية (نانسي عجرم) في بغداد: هل هي خمسمائة دولار أم ثلاثمائة؟ حتى لو كانت مائة دولار، لامفرّ من مواجهة أسئلة تدور في العقول.
دعونا من شخص المطربة وآلية تنظيم الحفلات الخاصة. هناك من سيقول أننا نعيش سوقاً حرّة محكومة بقوانين خاصة بها. ثمّة من أراد التعاقد مع هذه المطربة وعرض عليها مبلغاً من المال، وهي وافقت، ثمّ تمّ تسعير بطاقات الحفل بما يحقق أرباحاً مجزية لمنظّم الحفل. وربما إستفادت الحكومة من تأجير مكان الحفل، وحتى لو لم تستفد مالياً فإنها ستكسب سمعةً أنها صارت تواكب روح العصر وتسعى للترفيه عن الشعب وامتصاص بعض غضبته. يمكن للمرء أن يشمّ رائحة (تخادم) بين الطرفين.
دعونا من كلّ هذا ولنركّز أنظارنا وعقولنا على سلوك العراقيين بمنظار مجتمعي – إقتصادي مركّب. صار العراقيون يتفنّنون في انفاق المال من غير وجع قلب. الامر صار أقرب لعبث غير متحسّب للعواقب. ربما سيقول كثيرون أنّ لسعة أيام الحصار تركت في نفوس العراقيين (جوعاً عتيقاً) لم تنطفئ جذوته حتى اليوم. متى ستنطفئ هذه الجذوة إذا لم تَكْفِها عشرون سنة؟ أظنها لن تنطفئ أبداً.
يتصرّف العراقيون بأموالهم وكأنّ الدخل السنوي للعراق يوازي دخل دولة كبرى مثل ألمانيا أو بريطانيا. ويتجاهلون الحقيقة: أننا كائنات طفيلية تعتاشُ على الريع النفطي ولسنا مجتمعاً خالقاً لتقنيات جديدة تولّدُ أشكالاً جديدة من الغنى والثروة. نحنُ نستهلكُ المال ولانصنعه. المؤلم في الامر أنّ السياسات الحكومية تعضّدُ هذا السلوك المالي المنفلت على الصعيد الفردي بمزيد من المولات والمطاعم والقروض التي هي في حقيقتها ليست سوى تدوير لأموال الفساد التي صارت تخشى عبور الحدود الوطنية تحسباً من مآلات مستقبلية يحدسها الفاسدون بمجساتهم الدقيقة.
ماالذي فعلته (نانسي عجرم) في حفلتها؟ كم غنّت من الزمن؟ ساعة؟ ساعتان؟ ثلاث؟ هل أعادت روح الحياة الجميلة والرصينة في أرواح من سمعوها؟ بل أكاد أتساءل: هل كان الحاضرون يستمعون إليها أم يطلبون شكلاً من أشكال التشتيت والفوضى تشبّهاً بما يحصل في أماكن أخرى؟ المعادلة الحقيقية هي:باعت (نانسي عجرم) العراقيين وهْماً دفعوا من أجله عشرات ألوف الدولارات إمتلأت بها جيوب الفنانة ومتعهدي الحفل. هذا مافعله (محمد رمضان) من قبلُ، هذا الذي لايتقنُ سوى أدوار البلطجي المزواج، والذي يتساوى عنده التمثيل مع (التحشيش). أظنُّ أن (نانسي عجرم) وسواها من المغنين والمغنيات يحدّثون أنفسهم سراً ويناجون ربّهم بأن يديم عليهم هذه النعمة التي لاتنقطع: نعمةُ جمهور يشتري الوهم بمال وفير تفيض به جيوبهم المتخمة. لو ساءلتهم لقالوا لك (وبراءة الاطفال في عيونهم) بذات الطريقة التي يجيب بها سمسار طفيلي: وماذا نفعل؟ نحن لم نسرق أحداً ولم نُرغِمْ أحداً على الدفع. إنه السوق. عرض وطلب. أليست هذه قوانين السوق الحرة؟
سيتساءل كثيرون من حسني النية وطيّبي القلب: ولماذا لايفرح شبابنا؟ دعوهم يفرحون ويقتنصون بعض لحظات الفرح مثلما يفعل سواهم في العالم. سأجيب: وهل يستعصي الفرح إذا غابت (نانسي عجرم) و (محمد رمضان) و،،،؟ وهل صار الإنفاق المنفلت للمال شرطاً لازماً لهذا الفرح الزائف؟ كان الكثير من العراقيين يلتمسون الفرح في (متنزّه الزوراء) أيام الجمعة مع قدور (الدولمة) و (البرياني)، أو الاماسي الجميلة على شاطئ دجلة في (أبي نؤاس) برفقة السمك المسكوف. كانت السعادة حينذاك حقيقية بسيطة نابعة من القلب، غير مكلفة وغير استعراضية، متاحة للجميع من غير تخصيص لبعض الطبقات، والاهمّ من هذا أنّ هذه الفعاليات كانت تخدم أناساً كسَبة يقدّمون خدمات ويتقاضون مقابلها أجوراً محددة يستحقونها. صار كثرةٌ من عراقيي اليوم – كما عرفت - يبخلون على عامل النظافة بخمسمائة دينار وهو أحد الذين يؤدون أعمالاً حقيقية في عراق متخم بموظفين كسالى متبطلين، أو قد (يفاصل) البعض مع بائعة خضرة لفحتها الشمس الصيفية على بضعة دنانير لم يعد لها قيمة؛ لكنّ هؤلاء أنفسم يلهثون للتزاحم على حفل مغنيات ومغنين يكتفون بتحريك شفاههم في بلادة وكأنهم يخبروننا: سنأخذ أموالكم حتى من غير أن نتعب حناجرنا!
أذكر مرّة في سبعينات القرن الماضي أن وُجّهَتْ دعوةٌ إلى (محمد علي كلاي) من قبل وزارة الإعلام لزيارة العراق، فطلب مبلغاً من المال لايساوي شيئاً بمعايير اليوم؛ لكن مع هذا رفضت الوزارة طلبه قائلة: ثمة عدد ليس بالقليل من المدن في أمريكا ذاتها تسمى (بغداد)، ولن تضيف زيارة كلاي لبغداد شيئاً.
لهؤلاء الذين ينشدون الفرح وهْماً أقول: خزائن العراق لن تبقى عامرة بمال يأتي به ريع نفطي تظنونه مخلّداً، وليس في العراق حكومات تحسب حساب المستقبل؛ بل ستترككم غائصين في وحل الكارثة عندما يعرف متنفّذوها أنّ خزائن العراق المالية باتت موشكة على الافلاس.
إدخروا شيئاً من المال لكم ولمستقبل أطفالكم المساكين، ولاتظنوا أنّ المولات وفواتير المطاعم الغالية ستنقذكم من الهوة السحيقة القادمة لامحالة.
وَمَنْ لم يتّعِظْ لغدٍ بأمسٍ ........وإن كان الذكيَّ هو البليدُ
بكت السيدة الالمانية دمعاً ساخناً؛ لكنّ خشيتي أن يبكي العراقيون دماً عندما تدقّ نواقيس الحقيقة الصارخة بعد زمنٍ لاأراه بعيداً.