أحمد علي يكتب: هل تتبعثر الأعراف السياسية في العراق ؟
تبدو عملية معالجة الهروب من التاريخ و تعدده امراً رياضياً لا ينفك عن مزاولته العراقيين ، ولعل التباين في الانقلابات على التاريخ في العراق تشكل جزء اصيل من ثقافة الخوف لدى العراقيين المدعومين بالجبهات الطائفية و الحزبية على حد سواء ، فمما هو اكيد و مؤكد ان حدثًا مثل انهاء عضوية شخصية سياسية كانت تشغل رئاسة السلطة التشريعية لن يكون الا تاريخًا جديدا في العراق بعد عام 2003.
وليس في الامر ما هو مبالغ فيه عندما نقول هذا الكلام ، فالعراق بلد السرديات التاريخية المهروب منها لا يمكن فيه السيطرة على تعزيز او اضعاف هذا الحدث او ذاك بدون دخول كل ما يمكن من شخوص و ساسة كانوا جزء من المشاكل و المحن حتى تأخذ التواريخ الجديدة مساراتها في المجتمع العراقي كنوع من الحقيقية الغير قابلة للكسر او الالتفاف .
لم تكن اقالة الحلبوسي حدثًا هامشيًا يمكن المرور منه بكل يسر و سهولة بدون ان تكون له ارتدادات مكلفة قد تطال حتى خصوم الحلبوسي الحاليين و القدامى سواء من الشيعة او السنة و حتى الكرد ، و بما ان العرف السياسي الذي يبنى عليه منظومة السلطة و الحياة السياسية في العراق توافقيه ، فان الارتداد الاول سيكون على مستوى تحقيق العدالة على الجميع دون استثناء خصوصا عندما نركز على العنوان الذي كان يشغله الحلبوسي, فهو لم يكن نائبًا كغيره بل هو الشخصية السنيه التي ثنيت له وسادة رئاسة السلطة التشريعية في فترتين متتالية ، ولغاية تاريخ 14/11/2023 , فان الرئاسات الثلاث لم تكن في مرمى القضاء و تحقيق العدالة , قد تكون تحت المطاردة القانونية لكنها لم تخضع يوماً لهذه المنظومة من العدالة وهذا ما كان يتداوله العراقيون على ان ثمة عرف سياسي له الكعب الأعلى على سيادة القانون ونفاذه بحق الجميع دون استثناء , ولعل هذه القناعة لدى المجتمع جاءت بسبب فداحة الاحداث الجسام على مر تاريخ المعاصر والذي نضعه بين 2003 ولغاية اليوم , فاغلب السرقات و عمليات القتل و الانهيارات المجتمعية لم يدان بها احد , بل بقيت القضاء العراقي قضاء سائب بدون الشعور بوجوده الا عندما تحصل عملية اتفاق على ادانة بين مكونات السلطة الرئيسية (شيعية,سنية و كردية ) .
ان تحقيق العدالة كان يحتاج الى شيء ما يسمى بالإجماع، و الاجماع كمفهوم فلسفي سياسي، في النظرة الأولى، يعطي الإيمان أنه أولا وقبل كل شيء، فإن هذا العنصر المهم من التعاون هو أداة سياسية هيئات صنع القرار السياسي التي ستصل، باستخدام الحكمة والهدوء أهداف وغايات مهمة لصالح مستقبل البلاد , وهذا ما لم يلمسه الانسان العراقي , لان مفهوم الاجماع هو مفهوم اجماع حزبي يبنى على أساس مصالح الأحزاب و ساستها بعيداً عن المصالح الوطنية , وخيرا مثال على هذا الكلام هو الانقلابات الكبيرة بين الدعايات الحزبية و حقيقة مواقفها عند ولوجها الى السلطة .
الدور الذي يلعبه الإجماع في عملية تقسيم السلطة هي الأكثر وضوحاً فلم توفر الأحزاب الشيعية ,السنية و الكردية أي نموذج حقيقي لأجماع وطني الا في تجربة التحالف الثلاثي الذي تزعمه التيار الصدري و الذي واجه رفض شديد من قوى شيعية , سنية و كردية , بسبب رفضها ان تحقق نموذج وطني عابر للمكونات الفرعية , وهذا يعني النزوع الى تجربة رثة لانتاج التوافقية الحزبية والتي تتضمن اجماع المتوافقين على سيادة المسؤول الحزبي فوق القانون و الأعراف الدستورية.
نستطيع القول ان الحكم الذي صدر بحق رئيس البرلمان المقال محمد الحلبوسي قد يكون الحجرة التي هزت اركان الاجماع الحزبي و التوافق السياسي , فمن المتعسر على المحكمة الاتحادية بعد هذا التأخير في محاسب أي مسؤول عن جرائم (سبايكر , الصقلاوية , سجن بادوش , اغتيال شباب تشرين وعاشوراء ..الخ) ان تستمر في غض النظر عن هذه الحوادث الجسام بما فيها ضياع ثلث العراق بدون ان يتحمل أي مسؤول عراقي واحد السبب و يعاقب على اثره , فمن يصدق ان هزيمة تكبد العراق اكثر من 100 مليار دولار خسائر و استشهاد ما يفوق 100الف عراقي و تهجير الملايين الى اليوم لازال بدون أي ادانة يتيمة حتى , فلا رئيس الوزراء ولا المسؤولين الأمنيين ولا العسكريين قد طالت احدهم مطرقة العدالة , وهذا ما يدفع العراقيين يوما بعد اخر الى عدم الثقة بمنظومة العدالة العراقية , غير ان المحكمة الاتحادية قد تكون أخرجت نفسها من عنق الزجاجة عندما أطاحت بأول رئيس سلطة كبير في العراق وبقي عليها ان تفتح بقية الملفات الشائكة لفترات حكومات السيد نوري المالكي و عبد المهدي , ولكن من المؤكد ان أحزاب الاطار سوف تحاول ان تكسر الجرة برأس الكاظمي وحكومته لاجل تحقيق العدالة في المطاردة القانونية و الإدانة , والهروب بالشخصيات القيادية الاطارية من منصة العدالة صوب التاريخ المستقبلي , ولكن هذه المحاولة أصبحت تتعثر كثيرة بسبب خروج الممارسة التوافقية من خانة الخلط بين التفسير وإيجاد الاعذار الى الوقوف على عتبة المحاكمة بحق أصحاب الجرائم الكبيرة والتي كلفت العراق عشرات الالف من أرواح أبنائه و ما يوازيها من مليارات الدولارات المفقودة .
في حالة ادخال القضايا الكبيرة الى خانة المحكمة الاتحادية , تصبح حظوظ الساسة الكبار وتحديداً من شغل رئاسة الجمهورية و الوزراء والسلطة التشريعية تحت مرمى العدالة , وهذا يعني ولادة جديدة في حكم البلاد بعيداً عن حكم الاوليغارشية المهيمنة على السلطة بالمال الفاسد والسلاح المنفلت , ويعني ثمة إمكانية كبيرة لأحداث نقلة كبيرة في حماية و تعديل الدستور من الضغوطات الحزبية المتحيزة , لكن هذا التحدي الكبير لن يمر مرور الكرام بدون استشعار الدول الإقليمية و الكبرى لخطورة مثل هذه الخطوة لانها قد تطال وكلائهم ممن يشغل المواقع القيادية في إدارة السلطة في العراق .
ان العملية العرفية للخلاص من العقاب في العراق تبدو انها تمر بمرحلة خطيرة قد ينقلب بسببها الجميع، وهذا ما يزيد خطورة وصعوبة نفاذ القانون في بقية المتهمين ممن تورطوا بالفساد والقتل والسرقات الكبرى، و في الحقيقة انها فرصة مواتية لتحقيق العدالة التي ننشدها وان يحظى الهاربون من تحمل المسؤولية بمحاكمات عادلة وحقيقية وان يعاد للبلد هويته القانونية التي فقدها بسبب تربع العرف السياسي على الدستور والقانون في العراق.
لن تكن مهمة تشكيل النفاذ القانوني بحق الجميع مهمة سهلة، ولكنها تستحق المحاولة ولأجل انجاحها فثمة مسؤوليات كبيرة قد تقع على الجماهير والهيئات والنقابات، فهي فرصة مثالية لكسر الأعراف التي هيمنت على العراق لأكثر من عشرون عام من خلال نافذة اقالة رئيس مجلس النواب الحلبوسي من رئاسة البرلمان بشرط ان تتبعها خطوات تنهض بها المحكمة الاتحادية في طلب كل تقارير اللجان البرلمانية والتي لاتزال بين المعلقة او المؤجلة بعيداً عن مطرقة القاضي الشريف والعادل.