بديع يونس يكتب: غزّة والازدواجيّة.. داء أصاب الجميع
منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) والتحليلات والتوقّعات تتزايد، منها ما هو عقلاني وواقعي وبراغماتيكي جدير بالاطّلاع عليه، فيما تذهب تحليلات أخرى لتكون عاطفية جيّاشة تسودها التمنّيات وتتغلّب فيها التخيّلات الذاتية على حساب العقلانية وما يدور على أرض الواقع.
مؤشرات اختلاف المعايير
اختلفت بعض المعايير منذ عملية "طوفان الأقصى"، وتلك بعض مؤشّراتها:
1- إدانة روسيا في حربها المدمّرة على أوكرانيا، وتدميرها للبنى التحتية، واحتلالها لأراضٍ في دولة مجاورة، لم تنسحب بذات القدر والمستوى على ما يحصل في غزة. فقد تمنّعت دول كثيرة عن إدانة إسرائيل في عدوانها الوحشي المدمّر وغزوها لقطاع غزة وتدميره. فما لا يجوز في دونيتسك ولوغانسك ومدن أوكرانيا يبدو أنّه مسموح به في القطاع وفي الضفة ليصبح "مشروعاً" في الخبث الدولي بوجه الشعب الفلسطيني.
2- تذمّرت واشنطن من تكرار استعمال موسكو للفيتو في مجلس الأمن حماية لحربها في أوكرانيا. نعتت هذا الاستخدام بأبشع العبارات وصولاً حتى تأليبها دول العالم على ميثاق الأمم المتحدة، وعلى نظام مجلس الأمن حتى المطالبة بتعديل طرق عمله وبتغيير عدد أعضائه. بالمقابل، استعملت الولايات المتحدة الفيتو أكثر من مرّة حماية لإسرائيل في عدوانها ولمنع إيصال المساعدات ولعدم فتح الممرّات الإنسانية، وسمحت باستخدامها لحقّ النقض تدمير المستشفيات والمستوصفات والمدارس ودور العبادة.
3- في العادة، تتنطّح موسكو عند كلّ تهديد كبير أو صغير وتسعى إلى حماية حلفائها أو أصدقائها حول العالم. لكنّها منذ عملية "طوفان الأقصى" لم تتّخذ أيّ موقف متشدّد ضدّ إسرائيل، بل أبلغت وفد حماس خلال زيارته للعاصمة الروسية بأنّها "تتطلّع لحماية الجالية الروسية الكبيرة في إسرائيل" بدلاً من اتخاذ الموقف العلني الواضح الهادف إلى حماية المدنيين الفلسطينيين من بطش إسرائيل وجور المستوطنين.
4- بدورها، كما عادتها بالوقوف على الحياد، لم تتّخذ بكين أيّ موقف صريح داعم للقضية الفلسطينية. فالصين لا تريد تأييد طرف على آخر. تفضّل الحياد بين المتصارعين على حساب المعايير الإنسانية والمعايير الأخلاقية.
5- من جهتها الدول الأوروبية، التي سارعت في الوقوف بوجه روسيا في حربها على أوكرانيا، زار أغلب قياداتها تل أبيب لإبداء التضامن مع إسرائيل، لدرجة أنّ نتانياهو تفاخر بالقول إنّ "زعماء العالم يقولون لي سرّاً عكس ما يصرّحون به علناً".
6- أمّا في الحديث عن الالتباس وخبث الازدواجيات، فحدّث عنهما بلا حرج عندما يأتي الدور على إيران. تتباهى طهران بـ"فيلق القدس" وبدعمها للقضية الفلسطينية، بينما لم تطلق طلقة واحدة دعماً لقضايا الشعب الفلسطيني. إنّما عمدت في كلّ من لبنان وسوريا والضفة والقطاع إلى خلق الشقاق بين الفلسطينيين، ومنعهم من توحيد كلمتهم والاتفاق على استراتيجية واحدة. دعمت فصائل بوجه فصائل أخرى لتغذية الاختلاف والخلاف بهدف السيطرة على الفصائل، وبالتالي تطويع هذه القوى بما يخدم أجندة إيران على حساب الأهداف المشروعة للشعب الفلسطيني. فالتقت طهران مع تل أبيب على تغذية الصراع الفلسطيني - الفلسطيني. شكّلت وجه العملة الآخر مع اليمين الإسرائيلي المتطرّف وغذّته بتطرّفها.
7- سعت كلّ من إيران والحزب بداية للتنصّل من عملية طوفان الأقصى، لتعود وتقع بالتناقض عندما ضجّ مسؤولوها وقادتها وإعلامها متبجحّين بدورها وبأنّ "إيران هي من نشلت الثورة الفلسطينية من مرحلة انتفاضة الحجارة إلى مستوى وعصر الصواريخ والمسيّرات، وأعطت للكفاح المسلّح زخمه ومداه".
8- أبقت طهران الحزب في موقع آمن تحاشياً لتعرّضه لضربات مؤلمة، فالتقت مصالحها بذلك مع مصلحة تل أبيب ومع مصلحة "الشيطان الأكبر" بمنع توسّع الحرب وامتدادها إلى جبهة لبنان. كما أبقت جبهة الجولان هادئة حيث لإيران وللحزب وجود مباشر، لكنّ كلّاً من دمشق وطهران لا تريدان توسيع الحرب ولا الانخراط بها ولا تريدان المواجهة الفعلية درءاً لاحتمال سقوط النظام السوري ومنعاً لانفضاح ميزان القوى الفعلي. فيما تمّ تحريك الحشد الشعبي في العراق وفي شرقي سوريا للزعم بأنّ مبدأ "وحدة الساحات" لم يسقط نتيجة الواقع العملي. بينما في حقيقة الأمر، ومنذ اليوم الثاني لعملية طوفان الاقصى، لم يغيّر أيّ تحرّك عسكري، بما فيه قصف الحزب اليومي للمستوطنات الإسرائيلية، من طبيعة حرب إسرائيل على قطاع غزة. ثمّ أتى تحريك الحوثي في البحر الأحمر وتهديده للملاحة الدولية ليثبت أنّ أجندة إيران تجاه واشنطن لا تتعلّق بغزة، إنّما بمفاوضات النووي وبالتخصيب وبالمليارات وبالإفراج عن الودائع وبفكّ الحصار عن تصدير النفط والغاز، تحسّباً لنتائج الانتخابات الرئاسية في أميركا وخسارة الحزب الديمقراطي لها.
ازدواجية المعايير ليست أمراً مقتصراً على الولايات المتحدة والمجتمع الغربي
ازدواجية المعايير ليست أمراً مقتصراً على الولايات المتحدة والمجتمع الغربي، بل تشمل أيضاً أطرافاً أخرى قد تكون في مواجهة أميركا وحلفائها كروسيا والصين وإيران. لقد بات العالم مع حرب غزة دون معايير ثابتة، إذ باتت المصالح تتقدّم على كلّ شيء وأصبحت المؤسّسات الدولية وقوانينها في مهبّ الريح.
نقلا عن أساس ميديا.