أيمن جزيني يكتب: 19 سنةً على الغياب.. هناك يرقد لبنان لا رفيق الحريري
19 سنةً مرّت. صار غيابك شابّاً وصرنا في أرذل العمر.
19 سنةً مرّت ولا تزال الأبلغ حضوراً، والأكثر إشراقاً.
نهرم وتزداد شباباً. توغل في الغياب وتبدو في الوقت نفسه موغلاً في الحضور.
19 سنةً واسمك لا يغادر البلاد. لا تزال تملأ الصحف والقنوات التلفزيونية والمحطات السياسية المفصليّة والحاسمة. طبعاً أعني صحف الوطن، الذي كان هنا ونحروه يوم استهدفوك، وقنواته ومحطّاته.
غبتَ فغاب. صحيح ما كنت تردّده بأن لا أحد أكبر من وطنه، لكن صحيح أيضاً أنّ أحداً كان هنا وكان يملأ الوطن. كان على قياس لبنان أو كان لبنان على قياسه.
لا أعلم إلى الآن مَن ارتدى مَن: لبنان ارتداك، أم ارتديته أنت؟ الأرجح أنّكما كنتما أشبه ما تكونان بالحكمة أو القول المأثور: لا ينفصل فيهما المعنى عن المبنى. أحسب أنّكما وُلدتما معاً جسداً وروحاً، وكم أثبتت الأيام منذ رحيلك هذه المعادلة: لبنان بلا رفيق الحريري جسد بلا روح، والعكس صحيح كذلك.
سنةً مضت، وكلّ يوم فيها يرفع نعشك على كتفيه ويمضي حاملاً دليله. 19 سنةً مضت، ونستذكرك ونتحسّر على أيام كنت فيها بيننا، وكنت فيها زينتها.
19 سنةً مضت، لم تمرّ خلالها دقيقة لم تذكّرنا بك.
نترحّم عليك كلّ يوم، ومع كلّ خبر تطالعنا به الصحف، ومع كلّ ذكر للبنان من قلب لبنان وحتى أقاصي المعمورة.
نتحسّر على أيام كنت فيها معنا، منذ 19 سنةً، كلّما انقطعت الكهرباء، وكلّما شحّ الدواء، وعند كلّ انقطاع للمحروقات والبنزين. نستذكرك، منذ 19 سنةً، كلّما اجتمع الأفرقاء اللبنانيون على ألّا يجتمعوا.
ما أكثرك وما أقلّهم.
ما أجملك وما أبشعهم.
ما أعظمك وما أصغرهم.
كنت وطناً وكانوا قبائل.
كنت لبنانياً وكانوا خارجاً ما.
أحببت وطناً ما كان بارعاً إلّا بكونه بلاداً ترزدل أحبّتها.
كم كنت فريداً. وكم كنت وحيداً. وكم كنت تشبه لبنان. لبنان الوطن الذي كان هنا. لبنان رفيق الحريري. لبنان الدور الذي لا غنى عنه للّبنانيين والعرب والعالم، ولبنان الرسالة، ولبنان صندوق البريد الذي بين الأرض والسماء.
ما أحوجنا إليك اليوم، وإسرائيل تشنّ علينا وعلى الفلسطينيين حرباً وحشيةً لا هوادة فيها. ما أحوجنا إلى نيسانك، ولو على سبيل أوّل يوم منه. ما أحوجنا إلى أن تعود ولو كذباً، ولو عبر شائعة أو على أثير وعد.
اليوم، بعد 19 سنة على اغتيالك، ما عاد مهمّاً من فعل ذلك، على الرغم من أهمية كشف الحقيقة، بقدر أهمية ما اكتشفناه ولا نزال نكتشفه إلى اليوم وعلى الأرجح سنبقى زمناً طويلاً ونحن نكتشفه: لماذا اغتالوك؟
مع كلّ إشراقة شمس، منذ 19 سنةً، نكتشف سبباً جديداً، وكلّما شعرنا بأنّنا عرفنا لماذا اغتالوك، نكتشف كم أنّنا لا نعرف شيئاً.
نحن منذ 19 سنةً لم نجتمع على قرار وطنيّ واحد، ولم نحقّق إنجازاً واحداً، وما تقدّمنا قيد أنملة إلا على مضض وكارهين وغالباً من دون جدوى.
19 سنةً ونحن نرزح تحت ثقل أزمات كنت تبدّدها بقرار أو زيارة أو رحلة عابرة للعواصم القريبة والبعيدة.
19 سنةً ونحن ننتظر “رفيقاً” ما، يرفق بنا ويصبو إلى إصلاح أحوالنا.
19 سنةً ونحن ننتظر ساعياً إلى الخير والوحدة والتقدّم والازدهار، ساعياً إلى الوطن، ولا نلقى إلا الانهيارات السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية والمالية والثقافية… وقبلها كلّها الأخلاقية.
البحث عن الوطن
19 سنةً قطعناها بحثاً عن رئيس للجمهورية حيناً، وعن رئيس لمجلس الوزراء حيناً آخر، وعن وزير هنا وتعيين هناك ومؤتمر يرفد خزينة الدولة هنالك، وعن موعد لإجراء انتخابات… وقبلها كلّها بحثاً عن زعيم يحلّق الوطن بجناحيه.
19 سنةً ونحن نبحث عن صلة تصل اللبنانيين بالعرب، والعرب بالعرب، والعرب بالعالم، فلا نعثر إلا على التفرقة والتجزئة والشرذمة.
19 سنةً ونحن ننزل إلى وسط بيروت الذي أعدت إعماره لبنةً لبنةً، وأزحت الركام عن كاهله بيديك، لنزور ضريحك هناك وننتظر معجزةً ما في زمن لست فيه إلا طيفاً وبوصلةً ضلّها الأقربون قبل الأبعدين.
19 سنةً ونحن نقرأ اسمك على شاهدة قبر، وما جرؤ أحد حتى هذه اللحظة على تصحيح ما كُتب عليها، فرفيق الحريري لا يرقد هناك. هناك تحت تلك الشاهدة يرقد وطن كان هنا، وكان اسمه لبنان.
كُنت مُستقبلاً. بعد رحيلك صرنا ماضياً سحيقاً.
نقلًا عن أساس ميديا..