من بيان جنيف إلى المبادرة الأردنية.. مسار الأزمة السورية على مدار التاريخ
منذ بداية الأزمة السورية وبعد مرور 13 عاماً، لا تزال سوريا واحدة من أكبر التحديات السياسية والإنسانية على المستوى العالمي.
وعلى الرغم من جهود الوساطة والإغاثة والمساعدات الدولية، فلا تزال الأزمة قائمة، دون تقدم ملموس في مسار الحل السياسي، الذي يعيش حالة جمود منذ فترة.
ومثّلت مبادرة المبعوث الأممي كوفي عنان، في فبراير 2012، بداية التدخل الدولي الأممي الملموس على صعيد الحل السياسي، والذي أسفر بداية عن خطة من 6 نقاط، تطورت لاحقا إلى ما بات يعرف بـ”بيان جنيف” الذي صدر في 30 يونيو 2012، عن “مجموعة العمل من أجل سوريا”، وحظي بتأييد مجلس الأمن.
بيان جنيف (1)
تمت صياغة “بيان جنيف 2012” بعناية فائقة، وخلال الفترة من 2012 – 2015 كان المرجع والإطار الوحيد للحل السياسي في سوريا.
ومع أنه نص بوضوح على تشكيل “هيئة حكم انتقالية” كاملة الصلاحيات، وانتخابات ودستور، إلا أنه نص أيضا على أن تنفيذ هذه الخطوات يجب أن يتم بالحوار والشراكة مع ممثلي الحكومة السورية.
ولم تكن الأطراف السورية المتنازعة هي وحدها غير المتفقة كليا مع بيان جنيف (1)، بل إن أطراف المجتمع الدولي نفسها التي شاركت في صياغة البيان وأيدته في مجلس الأمن، تبين أنها هي الأخرى منقسمة حول آليات تنفيذه وتفسير بنوده، مما أفشل تطبيقه.
بيان جنيف (2)
وتجلى هذا الفشل في مفاوضات جنيف (2) فبراير 2014 – التي رعتها الأمم المتحدة بين الحكومة السورية والمعارضة، وانتهت إلى عدم وجود أرضية لتحقيق تقدم في مسار الحل السياسي وفق بيان جنيف (1).
وفي جنيف (2) تجاوز المجتمع الدولي مفردات الحل السياسي التي اختطها لنفسه في بيان جنيف (1)، وتبني صياغات أظهرت ميلا تدريجيا نحو تمييع مطلب “هيئة الحكم الانتقالية” كمدخل للحل السياسي، والإشارة بدلا من ذلك إلى هذا البند كمطلب اختياري إلى جانب وسائل أخرى، كما تنص وثائق البيان.
وبدأت أولويات أخرى تأخذ مكانها في مسار الحل السياسي في سوريا مثل مكافحة الإرهاب والانتخابات والدستور والقضايا الإنسانية، بالإضافة إلى تفاصيل إشكالية بدأت تشغل مساحة واسعة في نقاشات الحل السياسي في سوريا، مثل: مصير وصلاحيات رئيس الدولة، وصلاحيات هيئة الحكم الانتقالية وشمولها للأجهزة الأمنية والعسكرية.
ورافق هذه التحولات في الجانب السياسي تطورات لا تقل أهمية في الجانب الميداني تمثلت بسيطرة المعارضة السورية على نقاط إستراتيجية مثل مدينة إدلب، وإعلان روسيا تدخلها العسكري إلى جانب الحكومة السورية في أيلول/سبتمبر 2015.
بيانا فيينا والقرار (2254)
وشكل بيانا فيينا اللذان صدرا في أكتوبر ونوفمبر عام 2015 عن “المجموعة الدولية لدعم سوريا (آي إس إس جي)” وقرار مجلس الأمن (2254) في كانون الأول/ديسمبر 2015، نوعا من إعادة تشكيل مرجعية الحل السياسي.
ونصت جميعا على الهوية العلمانية لسوريا، ومرجعية “بيان جنيف 2012″، وانتخابات حرة ودستور جديد، ولكن بدون ذكر البدائل أو الإجراءات المترتبة على عدم تنفيذ هذه البنود في الفترة الزمنية المقررة ما جعل الطريق مفتوحا أمام عرقلتها والفشل في تنفيذها.
كما تم إغفال مصير رئيس الدولة، والتأكيد على إشراك ممثلين عن الحكومة السورية كطرف في الحل، عبر استخدام عبارة “الموافقة المتبادلة”، كشرط لتشكيل “هيئة الحكم الانتقالية” التي نص القرار عليها كوسيلة من ضمن وسائل أخرى يمكن العمل عليها، وليس الوسيلة أو المدخل الوحيد للحل، واستبدلت خطوة “ضمان الهدوء والاستقرار”، بمقاربة أضيق تتضمن “وقفا غير شامل لإطلاق النار” يستثني المجموعات الإرهابية.
وعكس القرار (2254) حالة الخلافات الدولية حول الملف السوري، ومع أنه مثّل في إطاره العام- إجماعا دوليا جديدا حول وجوب حدوث انتقال سياسي من نوع ما في سوريا، ولكنه من ناحية أخرى وفي تفاصيله بدا وكأنه تماه مع الرؤية الروسية للحل، وتخل رسمي من طرف المجتمع الدولي عن التزاماته تجاه المعارضة السورية.
في كل الأحوال ومع صدور القرار (2254) لم يعد جنيف (1) هو المرجعية الوحيدة للحل السياسي في سوريا وبدأت مرحلة جديدة.
وكانت المعارضة السورية قد استبقت القرار (2254) بعقد مؤتمر الرياض(1) وتشكيل هيئة التفاوض، التي شاركت في جولات المفاوضات مع الحكومة السورية برعاية الأمم المتحدة ضمن مسار جنيف ولكن دون نتائج تذكر، بينما على الأرض كانت الأمور تأخذ منحى آخر.
كان التصعيد في الميدان يزداد وأعداد الضحايا ترتفع، ودور الفاعلين الخارجيين -خصوصا الروسي والإيراني- يتوسع، مما سمح للحكومة السورية باستعادة السيطرة على العديد من المناطق التي خسرتها.
وتكبدت المعارضة خسائر متتالية توجت باستعادة الدولة السورية سيطرتها على مدينة حلب في نهاية عام 2016، والذي مثّل بداية فصل آخر جديد في المشهد السوري، غابت فيه بشكل كامل تقريبا فكرة “رحيل النظام” و”هيئة الحكم الانتقالية” عن مفردات الحل السياسي في السياقات الدولية.
الرؤية الروسية عبر مسار أستانا
وفي ضوء عجز الأمم المتحدة، وتغير موازين القوى على الأرض والظروف المحيطة بالشأن السوري، انطلق في يناير 2017 مسار أستانا الذي رعته روسيا وضم كلا من تركيا وإيران، ليشكل النقلة الجديدة في مسار الأحداث في سوريا.
وركز هذا المسار في بدايته على تثبيت وتوسيع وقف إطلاق النار، لينجح أخيرا في الجولة الرابعة من محادثات أستانا مايو 2017 بتحقيق تقدم ملموس في هذا الجانب عبر توقيع “اتفاق مناطق خفض التصعيد”.
وجاء هذا التقدم مقرونا بتوسع دور مسار أستانا وتداخله مع الحل السياسي، وصولا إلى عقد مؤتمر الحوار الوطني السوري في سوتشي (يناير 2018)، واعتماد مخرجاته كمرجع أو إطار للحل السياسي إلى جانب القرار (2254)، ثم إلى تشكيل اللجنة الدستورية (سبتمبر 2019).
أسفر مسار أستانا بجولاته الـ21 -والتي كانت آخرها في يناير 2024-، عن تبلور مرجعية واقعية ميدانية تعكس رؤية روسيا للحل عبر تعزيز سيطرة الحكومة السورية واستثمار التقدم العسكري بتحويله إلى منجز سياسي.
في هذه الأثناء كان المبعوث الأممي دي ميستورا يحاول الدفع بمقاربته الخاصة للحل التي عرفت بمقاربة السلال الأربع (هيئة الحكم، الدستور، الانتخابات، الإرهاب) ليعلن عنها بشكل رسمي في محادثات جنيف4 (فبراير 2017).
وتخلى دي ميستورا لاحقا عن بند “هيئة الحكم الانتقالية” وركز على الإرهاب والدستور والانتخابات، في تماهٍ مع الرؤية الروسية ومسار أستانا الذي حيد “هيئة الحكم الانتقالية” و”الحوار الوطني” و”البيئة الآمنة” واكتفى من جميع الطروحات والقرارات الدولية ببند “الدستور” و”الانتخابات”، كأساس لعملية سياسية في سوريا، تجري تحت سلطة النظام.
اللجنة الدستورية
شكلت خطوة الإعلان عن اللجنة الدستورية السورية في سبتمبر 2019 على هامش قمة روسية تركية إيرانية، النقلة التالية في مسار الحل السياسي في سوريا، بعد أن واجهت العديد من العثرات بسبب الخلاف على دور الأمم المتحدة، ورئاسة اللجنة، وصلاحيات عملها، والقواعد الإجرائية الخاصة بها.
ووصفت بأنها محاولة من روسيا للاستئثار بهذا المسار وتطويعه لرؤيتها للحل بشكل كامل، ولكن الأمم المتحدة حسمت الخلافات المبدئية عبر وثيقة أممية (إس/2019/775).
ونصت تلك الوثيقة على مرجعية اللجنة لـ “بيان جنيف” وبنوده الـ12 وليس سوتشي وأستانا، وهذا من شأنه أن يعيد الاعتبار -ولو بعد حين- لخطوة “هيئة الحكم الانتقالية”، ويقطع الطريق أمام محاولات حصر الحل السياسي في سوريا بدستور وانتخابات لا تفضي لتغيير سياسي حقيقي.
تميز هذا المسار بالمشاركة الرسمية والفاعلة للمجتمع المدني الذي خصصت له ثلث مقاعد اللجنة الدستورية إلى جانب كتلتي الحكومة والمعارضة.
مع ذلك وعلى مر نحو 4 أعوام من عمر اللجنة (2019 – 2022)، و8 جولات من اجتماعاتها، لم تفلح الأطراف الثلاثة، (المعارضة، الحكومة، المجتمع المدني) بكتابة مادة واحدة من الدستور الجديد للبلاد، فيما وصف بيدرسون القسم الأعظم منها بأنها “مخيبة للآمال”، ليدخل بعدها هذا المسار -الذي اختزلت فيه كل جهود الحل السياسي- في حالة جمود، شأنه شأن المشاريع والمسارات التي سبقته، دون أن يفضي إلى تقدم ملموس في عملية انتقال أو تحول سياسي في سوريا.
وخلال هذه الفترة وسعت الحكومة السورية من مساحة نفوذها ورسخت قبضتها على مقاليد الأمور في مناطق سيطرتها، وبادرت العديد من الدول للانفتاح عليها، وبدأت أزمات إضافية بتصدر عناوين المشهد السوري، مثل الواقع المعيشي، وتزايد أعباء اللاجئين، وغيرها من تبعات غياب الحل السياسي.
تواجه عملية تفعيل مسار اللجنة الدستورية حاليا اعتراضا على مكان انعقاد الاجتماعات حيث ترفض كل من روسيا والحكومة السورية عقد لقاءات اللجنة الدستورية في جنيف/سويسرا -بعد أن شاركت بفرض عقوبات على روسيا بسبب الحرب في أوكرانيا- باعتبارها مكانا غير محايد.
خطوة مقابل خطوة
وفي معرض البحث عن مخرج من هذا الوضع المتأزم برزت مقاربة “خطوة مقابل خطوة” والحل “المتدرج” للأزمة السورية كآلية بديلة للتعامل مع الوضع في سوريا، وقد اقترح بيدرسون نفسه العمل وفق هذه المبادرة بعد تعطل مسار اللجنة الدستورية.
وسرعان ما تحولت مقاربة “خطوة مقابل خطوة” من مقاربة للحل في سوريا، إلى مدخل وغطاء للتطبيع العربي مع سوريا، كل على طريقته، والذي بلغ ذروته بعد زلزال فبراير 2023، مفضيا إلى تطبيع العلاقات السورية الدبلوماسية مع معظم دول المنطقة، وعودتها إلى الجامعة العربية في أيار/مايو 2023، وتشكيل لجنة الاتصال الوزارية العربية للإشراف على الحوار مع الحكومة السورية.
إلا أن المبادرة والجهد الأبرز ضمن نهج “خطوة مقابل خطوة” تم التعبير عنه من خلال “المبادرة الأردنية” في يونيو 2023، التي تطورت عن “ورقة اللاورقة” التي تقدم بها الأردن في 2021.
وتعتبر “المبادرة الأردنية” -التي تتمتع بدعم ومشاركة العديد من الدول- أن القرار (2254) هو أفضل السبل للمضي قدما، وفي نفس الوقت تقرر أن “تغيير النظام ليس هدفا فعالا”، وتنتهي إلى أن الخطوات المتوقعة من دمشق وحلفائها هي “سحب جميع القوات الإيرانية العسكرية والأمنية من سوريا، وانسحاب حزب الله”، مقابل “انسحاب جميع القوات الأجنبية والمقاتلين الأجانب من جميع الأراضي السورية التي دخلوها بعد 2011 بما في ذلك مناطق شمال شرقي سوريا وقاعدة التنف الأميركية، ورفع العقوبات، وتمويل المانحين لإعمار سوريا”.
ورغم الزخم الذي أحاط بالمبادرة الأردنية فإنه لم تمض بضعة شهور قبل أن تتداول أنباء عن تعليق اجتماعات ممثلي الحكومة السورية واللجنة الوزارية للجامعة العربية، نتيجة لعدم إحراز تقدم حقيقي في نهج الحل الجديد، وفشل المحادثات اللبنانية السورية حول عودة مئات الآلاف من السوريين اللاجئين في لبنان.
واليوم وبعد مرور ما يزيد على 9 أشهر من طرح هذه المبادرة الأردنية، لم يتمخض هذا المسار عن تقدم ملموس في مسار الحل، ليدخل مسار الحل في سوريا من جديد في حالة جمود، عززها هذه المرة ظهور أزمات أخرى احتلت الصدارة على سلم أولويات الاهتمام العالمي والإقليمي مثل تطورات الحرب في أوكرانيا والحرب في غزة.