يوسف الديني يكتب: بنية أمنية صلبة لاستقرار المنطقة وسلامتها
هناك حراك كبير على مستوى العالم يعيد موضعة منطقة الخليج المستقرة، ودول الاعتدال بقيادة السعودية، بوصفها عاملاً مهماً لمستقبل الشرق الأوسط، عطفاً على صعود منسوب التوتر والأزمات والحروب، وتحولات كبيرة على مستوى مفهوم «الحرب» والمشاريع التقويضية، وصولاً إلى تهشم صورة الكيان الإسرائيلي في المنطقة وعزلته.
عُقدت اجتماعات متعددة، وعلى مستويات رفيعة في أكثر من مجال، في قلب الاستقرار الإقليمي (الرياض)، وتم التركيز على موضوع الأمن بدرجة أساسية؛ لكن ضمن نطاق مختلف، ربما يقود إلى تحول في مفهوم العلاقة مع الولايات المتحدة، من الشعارات التي بدأت تتخذ طابعاً متصاعداً منذ ما بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001، إلى الشراكات التي فرضها صعود السعودية والخليج -منذ ما عرف بـ«الربيع العربي»- بوصفهما نموذج ازدهار واستقرار بالمنطقة، وصولاً إلى التحولات الهائلة للسعودية الجديدة، ما بعد «رؤية 2030»، وهي التي أيضاً لا يمكن تقزيمها في مجرد مشاريع اقتصادية؛ بل هي تعكس تحولاً بنيوياً برافعات مفاهيمية أسست للقطيعة مع الفساد والتطرف والمحسوبية، وعززت مفاهيم السيادة والانفتاح على العالم، وملامح مشروع سعودي لازدهار الخليج والمنطقة.
الأمن الإقليمي اليوم هو خيار وضرورة ملحة للعالم الذي تعاني أهم ممرات طاقته وغذائه من مهددات أمنية عميقة. ولذا فإن المطروح اليوم شراكات أمنية متكاملة تستند إلى شؤون الدفاع الجوي والأمن البحري، بما يضمن سلامة الممرات، وهو ما يتطلب شراكات متعددة الأطراف؛ لكنها قائمة على مقاربة جديدة تختلف عن البراغماتية التي شابت بعض فترات العلاقة من قبل الدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
بناء التحالفات في عالم مضطرب يتجاوز تعزيز التعاون الأمني المتعدد الأطراف إلى فهم شامل لأزمات المنطقة، وعلى رأسها المشاريع التقويضية، والتعامل مع تهديدات الأذرع الميليشياوية ضمن سياقها الأوسع؛ حيث لا يمكن معالجة النتائج من دون الالتفات للأسباب الرئيسية المؤدية للنزاعات، قطعاً لدوامة العَود الأبدي لحالة اللاسلم التي عانت منها المنطقة منذ بدايات الدولة القُطرية.
والحال أن مزاج العالم والقوى الكبرى والمؤسسات الدولية لم يعد يكترث بأزمات العالم الثالث، ولا مناطق التوتر الملتهب الجاذبة للتنظيمات الإرهابية، إلا في إطار القلق من تدفق المهاجرين، أو في سبيل البراغماتية النفعية.
والحق يقال: إن الضرر الذي لحق باقتصادات العالم يجب ألا يكون الدافع الأساسي لمزيد من الشراكات والتعاون والتقدم في مجال الملف الأمني للمنطقة، فتعطيل حركة الممرات البحرية والملاحة، والعطب الجيوسياسي، لا يمكن معالجتهما بالضربات على طريقة الوجبات السريعة. ومن هنا نستطيع فهم مقاربة الرياض ودول الخليج في التعاطي مع مسألة الدفاع بوصفه أولوية مستدامة لوقف التصعيد عبر مقاربات محايثة، ومنها الحد من التصعيد، وحل القضية الفلسطينية، والمفاهمات عبر الحوار. والأهم ضرورة معالجة أزمة الثقة بعيداً عن الشعارات، وإنما بالتزام واضح يفضي إلى بناء بنية أمنية صلبة، أساسها أن أمن المنطقة مسألة كُليَّة لا يمكن تجزئتها أو رهنها بمعالجات سريعة أو انحياز سياسي، كالذي يحدث مع انتهاكات الكيان الإسرائيلي. ومن هنا تأتي أهمية حماية شرعية النظام الدولي، بما في ذلك نظام القانون الدولي والقانون الإنساني.
المقاربات السريعة وردَّات الفعل كشفت عن عيوب نسقية في فهم الدول الغربية والولايات المتحدة لتحولات المنطقة التي تعيش اليوم أكثر فتراتها حرجاً، وأصبحنا نرى هبوطاً لصوت العقلانية مقابل العدمية، وصعود أسهم الميليشيات التي تقوِّض الأوطان حتى باتت تتنافس في إعادة تقييم أنفسها.
خلاصة القول: تجب إعادة النظر في المقاربات الغربية التي تقودها الولايات المتحدة حول معضلة أمن البحر الأحمر، والتي باتت تُستخدم بشكل ذرائعي من الطرفين؛ خصوصاً مع استمرار حالة الانتهاكات الإسرائيلية في غزة؛ حيث يتخذها الحوثيون ذريعة لترحيل أزمة أكبر تتصل بإيران وإدارة الساحات، ولمحاولة التحشيد لأوراق تفاوضية وشعبوية، وتتخذها القوى الغربية أيضاً ذريعة لتنفيذ ضربات عسكرية محدودة لا يمكن أن تجتث المشكلة وإنما تفاقم نتائجها. ولا يمكن حل ذلك من دون استراتيجية لمفهوم الأمن القومي البحري الخاص بالدول ذات العلاقة، وعلى رأسها السعودية؛ لأنها المعنية بشكل أساسي بأمن البحر الأحمر أكثر من بقية الدول المطلة عليه.
ومن هنا، يتأكد أن المقاربة الأكثر جدوى هي إعادة تقييم شاملة لأمن الخليج، وفق منطق الشراكات وليس الشعارات أو الحلول المجتزأة.
نقلًا عن صحيفة الشرق الأوسط..