منى صفوان تكتب: مصر وسياسة النفس الطويل بأزمة سد النهضة
تدشن مصر سياسة جديدة، في التعامل مع الأزمات، لم يسبق أن اعتمدت في السياسة العربية المتسرعة، وهي سياسة النفس الطويل.
لقد كانت القرارات العربية في مجملها متسرعة، تبرز كرد فعل عاطفي، تنسند على قرار فردي، وتثق فقط بالتفوق العسكري، لدرجة أن قرار الحرب هو أسهل القرارات، لاسيما إن كانت دولة غنية ومتفوقة عسكرياً.
غير أن التعامل المصري مع أزمة سد النهضة يخرج عن القاعدة العربية، ليؤسس نهجاً مختلفاً بالتعامل مع الأزمات، وخاصة تلك المصيرية التي تتعلق بمستقبل الأمة.
لقد اختفت دول عربية من على الخارطة بسبب قرار عسكري متسرع، بسبب غرور القوة، وأخرى تورطت بحروب استنزاف، أدت لتورطها بجرائم حرب، وأخرى وجدت نفسها وحيدة في قرار عسكري له توابعه السياسية والقانونية.
فالقرار العسكري هو الأسرع، والأسهل والأسوأ، إنه ليس نزهة، وحين يتعلق الأمر بفتح جبهة عسكرية، فتوقع أي شيء، ولست مضطرًا له طالما هناك حلول أخرى.
وبرغم أن مصر اليوم أقوى عسكرياً وسياسياً، من وضعها قبل عشرة أعوام، وفارق القوة العسكرية بينها وبين إثيوبيا يصب لصالحها، إلا انها لم تتورط بأي فعل عسكري ضد إثيوبيا، برغم الضغوط الشعبية والإعلامية والسياسية، التي تطالبها بحسم الأمر.
فمصر تنتهج سياسة النفس الطويل، وهي سياسية لا يظهر أثرها سريعًا، وقد تتهم بالفشل، والإخفاق والضعف، وتحتاج أن تفصل نفسها عن الضغط الذي يطالبها بالحسم، وهي بذلك تؤكد أنها تتصرف أولا كدولة.
مما يوحي بأن قرار الحرب ليس عاطفياً أو فردياً، بل هو قرار مؤسسي، يتم اتخاذه بعد إعلان فشل كل الطرق الدبلوماسية والضغوط السياسية، ويأتي وفقاً لدراسات، مهما بدى سهلاً.
فمصر تتحرك اليوم وفق منهج الحلفاء، بأن لا تظهر وحيدة، وتحاول كسب الموقف السياسي من خلال الاستفادة من الاهتمام الدولي، لتظهر كم هي دولة حكيمة، وخاصة ان لديها كل الحق بالدفاع عن وجودها كون القضية ليست هامشية، إنها تراكم ملفاً من الخبرات، والمواقف، وكذلك، نقاط قوة، ومواقف تأييد، ودعم سياسي، إضافة لنقطة مهمة وهي إحراج المجتمع الدولي.
أزمة قناة السويس
إن المراقب لطريقة مصر بإدارة ملف سد النهضة، يمكنه أن يلاحظ كيف استفادت من الأزمات الطارئة لتوجيه رسالة تصب في مصلحة موقفها من سد النهضة.
كأزمة السفينة العالقة في قناة السويس، وكيف أدى غلق القناة بسببها إلى أزمة عالمية في طرق الملاحة، أدت إلى كوارث مالية واقتصادية، لتسلط مصر الضوء بذكاء، وتذكر العالم بأهمية استقرار مصر، وأهمية دعم العالم لها لبقاء هذه المنطقة مستقرة.
إن تهديد القوي القادر، يختلف تماماً عن تهديد الضعيف العاجز، ومصر تعتبر المضي بمشروع سد النهضة تهديداً لها، لكنها بذكاء وهدوء تشعر العالم انه ايضاً تهديد له.
فمصر دولة محورية في العالم، وهي مفرق طرق، ونقطة ارتكاز، وليس لصالح العالم، أن تكون تحت ضغط وأزمة يهدد وجودها وامنها المائي.
القواعد العسكرية
الرسالة الأخرى متعلقة بمواصلة بناء وإنشاء القواعد العسكرية لاسيما المائية.
فهذه القواعد تقول اننا امام دولة متفوقة عسكرياً واقتصادياً، ومستقرة داخلياً، وليس من مصلحة اي دولة ان تتحول مصر الى عدو له.
كما أن المراقب يلاحظ كيف أن الإعلام المصري يركز بذكاء على نقاط الضعف الإثيوبية في الداخل، من اضطرابات، وفوضى، وأزمات سياسية، واقتصادية.
وهي رسالة يتم فهمها في الطرف الاخر، بأن الحرب التي تدعو لها ليست لصالحك، خاصة حين تكون نظامًا غير
متماسك، ولديك خصوم في الداخل.
وإلى الآن ما زال الخطاب السياسي الرسمي يتعامل بمنطق الكبير المسؤول، الذي يقدر حاجة بلد ضعيف كإثيوبيا بإقامة السد، ويوضح بكل ثقة كيف يهدد هذا بلد كمصر.
مجلس الامن
وكان الذهاب لمجلس الأمن ولعبة إدخال المجتمع الدولي، أسلوب سياسي استراتيجي مهم، لتدويل الأزمة، لتخرج من كونها أزمة محلية أو أفريقية.
وهو اسلوب ماهر وذكي، والمجتمع الدولي ومجلس الأمن فطن للهدف المصري، وأوصى بأن تحول القضية لحلها إفريقياً، ليتنصل من المسؤولية، ولا يعطيها البعد الدولي الضاغط.,
غير أن مصر ليست دولة خفيفة، فهي تتحرك بأكثر من مستوى: عربي، أفريقي، ودولي، فلا تظهر أنها معزولة في محيطها، ولا يتم استدراجها لتواجه منفردة.
إنها تضع كل العالم امام مسؤوليته، حتى إذا فشل الحل السياسي وأصبح لابد من تدخل عسكري، فسيصبح قراراً لا تنفرد به مصر وحدها ولا تتحمله منفردة.. وسيكون كأنما دفعت له مرغمة، فلا يجرؤ أحد على لومها سياسياً او قانونياً.
إن هذا التفكير الاستباقي والتحليلي، يؤكد أننا أمام دولة كبيرة بالفعل، دولة تؤسس لسياسة عربية جديدة يجب الاقتداء بها، لحل الازمات الداخلية والخارجية.