داليا الحديدي تكتب: جرائم مجانية
من فندق صغير "فينتيتج" بمدينة أدنبرة باسكتلندا اكتب، على أنني منذ يومين استمتعت مع بناتي بحضور مسرحية "البؤساء" على أحد أكبر مسارح لندن، وهناك استدعيت صباي حين درست بمدرستي النص القديم ل"هوجو".. أيضاً تذكرت نص أعمق للكاتب الفرنسي "جي دو موباسان" بعنوان " جريمة مجانية"
رغبة عارمة لشاب في إقتراف جريمة
والقصة القصيرة تروي رغبة عارمة لشاب في إقتراف جريمة تعرض حياته وحياة المسافرين للخطر عن طريق الهروب في بطن الطائرة ومحاولة القفز قبل الهبوط بثوان.
في ذاك العهد تم شرح النص على أنه قد يعن للبعض إقتراف خطأ ما بدون أي دافع أو سبب سوى غرض النزوة.. محض النزوة.
لكن كلما مر العمر وأعدت قراءة النص تبدى لي من عنوان القصة
"فعل مجاني"، أن الكاتب لفت الإنتباه لكون عدم دفع الإنسان ثمنًا لجرائمه يشجعه على اقتراف كل شنيع.. فمن آمن العقوبة أساء الأدب واقترف المزيد من التجاوزات، فحقوق الانسان مرتبطة بضرورة رفع وعي المرء لكون التسامح فيما لا يجب غض الطرف عنه سيشجع الآخر لاقتراف المزيد من الجرائم بحق الآخرين.
عصر الإحتياج للصور
للتوضيح ولكوننا نعيش عصر الإحتياج للصور .. فكثيرًا ما نقرأ عن روايات ملفقة تنشل جناح من الحقيقة لتدسها مع صدر من الزيف وتصدرها في بطون عقول الغير. فكثيرًا ما نقرأ في الصحف وفي وسائل التواصل أن نجيب محفوظ قد تم تسميته على اسم دكتور قبطي عقب ولادته المتعثرة. لاحقًا، سمعت بأذني تسجيل لحلقة إذاعية استضيف فيها"محفوظ" أنه لا يعرف على وجه الدقة حقيقة سبب اختيار الإسم، ثم ذكر روايتين أحدهما تقول أن الأسرة ارسلت خادم ليسجل الإسم المركب وهو "محفوظ نجيب"، فالتبس الإسم على الخادم وسجله نجيب محفوظ، لا محفوظ نجيب.
ثم ذكر الأديب العالمي أنه روي له من عائلته قصة تسميته على إسم الطبيب المسيحي، لكنه لم يجزم بأي الروايات أصح أو أدق.
و رغم ذلك ولأن الصحفي أو "اليوتيوبر" يحتاج لقصة عامرة بالتناقضات و الحبكات الدرامية، لذلك، نشهد عمليات إنتقاء وحذف لرواية معينة وإعتماد أخرى كحقيقة مسلم بها لأن الأخرى ستكون أشد شبعأ لنهم القارئ في تعاطي كل مثير و شهي من روايات "جانك فوود" ملفقة.
فنجيب محفوظ بلسانه لم يبت في حتمية أي من الرورايتين، لكن لأن الصحفي او اليوتيوبر أو المذيع سيحصد متابعات أكثر لنشر نص عامر بالنكهات الحارة "السبايزس"، كما أنه لن يدفع ثمنًا لتزييف الحقيقة فإنه ينحاز للملفق ويمحو ظل الحقيقة بإطمئنان بالغ، ليبتلع المشاهد أو القارئ القصة المزيفة على أنها "أم الحقائق" أو حتمية قدرية.. والأدهى أنه يتداولها بل ويروج لها وكأنه ضليع بعلم بيوجرافي الأدباء.. حتى أن المتلقى قد يجد حرجًا بالغًا في المستقبل لو اعترف بأنه تداول الزيف ونشره وروج له، لذا، يؤثر سلامة المضي في تداول قصة غير دقيقة أو كاذبة عن العدول عنها خوفًا من تعريض صورته على الملأ للتشويه.
بالفعل تضيع الحقيقة لو لم يتم دفع الثمن .. وللتدليل، أجدني مضطرة لذكر واقعة متداولة كالنار في الهشيم لفنانة فاضلة لازالت على قيد الحياة ومع هذا يصر الكثير من الصحفيين على تشويه سمعتها والترويج لكونها خانت شاعر كبير مع كاتب أخر!
وعلى مدى عقود تم نشر القصة المختلقة بتأكيدات يشهد عليها كل من لم يراها وبثبات عنيف يدعون ويتشدقون بأن الفنانة خائنة وفضلت الكاتب لأنه وسيم فيما رفضت الشاعر السمين لدمامته!
ورغم أن تلك السيدة لديها ابن وسمعة وشرف، لكنهم يصرون على هتك الأعراض والتغول في الإهانة فقط لأنهم في مأمن من دفع ثمن النهش .. فما أسهل أن يجلس فلان مع علان على المساطب للنهش في أعراض الناس وكأن الفنانة ليس من حقها تفضيل أحد ثم أنها لم تكن متزوجة من الشاعر الكبير لتخونه، فأي خيانة يروجون لها؟
يبدو أننا ننفق الكثير من صفحات العمر لندرك أن السنتنا مخضبة بدماء نهش التشهير بالآخريين. لذا، فالفنانة والتي عرف عنها عدم التوانى في رفع القضايا ضد التشهير لديها الحق في عدم التسامح مع من يكتب عنها أو يختلق أكاذيب عن حياتها عن جهل لكونه يقترف جرائم مجانية.
على أنني لن القى اللوم على الكاتب والصحفي أو اليوتيوبر فحسب، فهناك رغبة في تصديق الأكاذيب أكبر من الرغبة في إختلاقها. فنسبة السمّاعون للكذب والقراؤون للإشاعات أضخم من نسبة الناطقين بالمهاترات كما أنه يصعب على الفرد الشعور بضلوعه في الجريمة لمجرد إعطاء اذنه للأكاذيب.. بل لربما يشعر المرء أنه من باب الذوق قد يعرض المتحدث الكاذب للحرج بصده عن كذبه أو اهاناته ما يفاقم من تحجيم شلالات تداول الأكاذيب.. فقد يجد المرء نفسه في موقف مشوش حين تتواتر القصص الملفقة على مر عقود على مسامعه .. حينئذ يؤثر السلامة لإعتقاده أن تلك الفرية تصيب الآخرين أما هو فيحسب أنه ناج متناسيًا أن الحياة ديون فلو تركت زميلًا لك في الإنسانية عرضة لمهب الإهانات المجانية فثق أن دورك آت آت ولو بعد حين.