الهجمات على لبنان تُعيد رسم المشهد في الشرق الأوسط
في خضم الصراعات المتجددة في منطقة الشرق الأوسط، تبدو الصورة أكثر تعقيداً من أي وقت مضى، حيث لم تعد الحدود السياسية والجغرافية فقط هي التي تفرض التحولات في المواقف، بل أيضاً التحركات العسكرية والاستخباراتية.
الأسبوع الماضي، شهد تصعيدًا خطيرًا بين حزب الله وإسرائيل، بعد سلسلة هجمات متبادلة شملت تفجير أجهزة بيجر وأجهزة اتصال لاسلكية تابعة لحزب الله. هذا التصعيد يطرح تساؤلات كبيرة حول مدى احتمالية نشوب حرب برية جديدة في المنطقة، وكيف أثرت هذه التحركات على الأوضاع في الشرق الأوسط ككل.
منذ بداية الحرب على غزة، تصاعدت المخاوف من توسع النزاع ليشمل أطرافاً أخرى في المنطقة، وتحديداً حزب الله في لبنان، الذي يُعتبر حليفًا وثيقًا لحركة حماس. ومع استمرار الهجمات شبه اليومية بين حزب الله وإسرائيل على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، نُقلت عشرات الآلاف من المدنيين إلى مناطق أكثر أمانًا على جانبي الحدود. بدا لوهلة أن الطرفين، رغم التصعيد، يسعيان لتجنب صراع شامل.
لكن هذا الأسبوع شهد تحولاً استثنائياً، حيث نُفذت عملية غير مسبوقة استهدفت الآلاف من عناصر حزب الله من خلال تفجير أجهزة البيجر والاتصالات اللاسلكية، ما أعاد رسم الحسابات العسكرية والسياسية في المنطقة.
حزب الله
تأسس حزب الله في أوائل الثمانينيات خلال الحرب الأهلية اللبنانية، وسرعان ما قدم نفسه كقوة مقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان. وبالرغم من انسحاب إسرائيل من لبنان في عام 2000، احتفظ حزب الله بأسلحته، في انتهاك واضح لقرار الأمم المتحدة. منذ ذلك الحين، عزز الحزب نفوذه، وأصبح اللاعب السياسي الأبرز في لبنان، مع قدرته العسكرية التي تتجاوز قدرات الجيش اللبناني.
تغيرات على الساحة
في الأسبوع الماضي، وقع حدث غير تقليدي وغير متوقع في ساحة القتال. تفجير أجهزة الاتصال التي يستخدمها حزب الله، والذي يُعتقد أن إسرائيل تقف وراءه، أحدث صدمة في صفوف الحزب وكشف العديد من أعضائه ونشاطاته السرية. بينما لم تعترف إسرائيل رسميًا بهذه العمليات، إلا أن العديد من المحللين يعتقدون أن الموساد، جهاز الاستخبارات الإسرائيلية، كان العقل المدبر وراء هذه الهجمات. ومن المعروف عن الموساد قدرته على تنفيذ عمليات تتجاوز جمع المعلومات إلى تنفيذ ضربات مباشرة، كما كان الحال مع تفجير أجهزة البيجر.
كيف نُفذت الهجمات؟
بحسب الروايات المتعددة، يعتقد أن الموساد أنشأ شركات وهمية لتصنيع أجهزة البيجر التي انتهى بها المطاف في أيدي حزب الله.
وبعد وصول هذه الأجهزة، تم تفخيخها بحيث يمكن تفجيرها عن بعد، ما أدى إلى استهداف عدد كبير من عناصر الحزب. ويُقال إن هذه الأجهزة كانت تُمثل أحد أهم وسائل الاتصال السري بين أعضاء حزب الله، ما يجعل استهدافها ضربة قوية للتنظيم.
التداعيات العسكرية والسياسية:
يقول المحللون أن هذه الهجمات أضرت بشدة بقدرة حزب الله على مواصلة تنسيق عملياته بفعالية. ومع ذلك، يظل السؤال قائماً: هل يُمكن أن تؤدي هذه الهجمات إلى حرب شاملة؟ يعتقد الكثيرون أن إسرائيل ترغب في تحييد حزب الله بشكل كافٍ حتى تتمكن من التركيز على الصراع في غزة، لكنها تدرك أيضًا أن الدخول في حرب برية مع حزب الله سيكون مغامرة محفوفة بالمخاطر. فالتنظيم يمتلك ترسانة صاروخية كبيرة، قادرة على استهداف المدن الكبرى في إسرائيل، مثل تل أبيب وحيفا.
احتمالية حرب برية:
يرى خبراء أن هناك جدلاً داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حول الوقت المناسب لتنفيذ هذه الهجمات. البعض يرى أنها خطوة ضرورية للحد من قوة حزب الله وتأثيره، في حين يرى آخرون أن الهجمات جاءت في توقيت غير مناسب، قد يؤدي إلى تصعيد غير مرغوب فيه.
على الجانب الآخر، يُحذر البعض من أن أي محاولة لاجتياح بري للبنان ستكون "حماقة كبرى". فحزب الله يملك خبرة طويلة في القتال البري، خاصة في تضاريس جنوب لبنان الوعرة. إضافة إلى ذلك، فإن تكاليف حرب برية ستكون باهظة بالنسبة لإسرائيل، سواء من الناحية البشرية أو السياسية.
تأثير الهجمات على القدرات العسكرية لحزب الله:
بحسب التقارير، تلقى حزب الله ضربة قوية بفقدان العديد من عناصره الرئيسيين في الهجمات الأخيرة. ومع ذلك، يبقى التنظيم قوياً بما يكفي للرد، خاصة من خلال ترسانته الصاروخية الضخمة التي تُشكل تهديداً دائماً لإسرائيل. وتبقى قدراته الصاروخية أحد أهم أسباب تردد إسرائيل في اتخاذ قرار الغزو البري.
الشعب اللبناني في مرمى النيران:
الهجمات لم تؤثر فقط على القدرات العسكرية لحزب الله، بل أدت أيضاً إلى نزوح عشرات الآلاف من المدنيين اللبنانيين من المناطق الجنوبية للبلاد. ويبدو أن الأشخاص الذين تمكنوا من البقاء في مناطقهم هم أولئك الذين لا يملكون الوسائل الكافية للفرار، وهو ما يزيد من حجم المأساة الإنسانية في المنطقة.
حسابات إسرائيل:
إسرائيل لا تزال عالقة في معادلة صعبة. فهي تسعى إلى تجنب حرب شاملة مع حزب الله، وفي نفس الوقت تحتاج إلى احتواء تهديده المتزايد. يُشير الخبراء إلى أن الهجمات الأخيرة قد تكون جزءًا من استراتيجية إسرائيلية لإجبار حزب الله على الدخول في مفاوضات لوقف إطلاق النار، دون أن تضطر إسرائيل إلى إنهاء حربها مع حماس في غزة.
التصعيد الأخير بين حزب الله وإسرائيل يعيد رسم ملامح المشهد في الشرق الأوسط، حيث أصبحت كل خطوة محسوبة بدقة لتجنب الانجرار إلى حرب شاملة. ومع ذلك، تبقى الأوضاع في المنطقة متوترة للغاية، حيث يمكن لأي تحرك غير محسوب أن يؤدي إلى اشتعال جبهة جديدة في الصراع. الأيام المقبلة ستكشف عن مدى قدرة الأطراف المعنية على احتواء الأزمة، أو ما إذا كانت المنطقة على أعتاب حرب جديدة تُضاف إلى سجل النزاعات الدامية في الشرق الأوسط.