د. تحسين الشيخلي يكتب: الحاجة إلى تفكيك العصر في ظل الذكاء الاصطناعي
أنا من المعجبين بفلسفة ( جاك دريدا ) في (التفكيك) ، وخدمني الحظ ان أحظر له عدة محاضرات ونقاشات عندما كان مديراً للكليّة الدوليّة للفلسفة ( College International de Philosophie (CIPH) ) في باريس.
في ضوء فلسفة جاك دريدا التفكيكية، التي تدعو إلى قراءة النصوص والنظم والمؤسسات بشكل يفتح الباب للغموض والشك والتساؤل، نجد أنفسنا اليوم في عصر يستوجب التفكيك على مستوى غير مسبوق، خصوصاً مع التطور الهائل في مجال الذكاء الاصطناعي. تفكيك العصر في هذا السياق لا يعني مجرد إعادة تقييم التقنيات الحديثة، بل يشمل أيضاً إعادة النظر في كل ما تأسست عليه هياكل المعرفة، الهوية، والوجود الاجتماعي.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة لتحسين الإنتاجية أو تحقيق الراحة، بل هو قوة مؤثرة تعيد تشكيل مفاهيمنا حول العقلانية، الإرادة، وحتى مفهوم الإنسان ذاته. فإذا كانت فلسفة دريدا تدعو إلى زعزعة المعاني المتأصلة داخل الخطابات التقليدية، فإن الحاجة إلى تفكيك العصر تبرز كضرورة فلسفية للتعامل مع هذه التقنية، التي تشوه الحدود بين ما هو طبيعي وصناعي وبين ما هو بشري وما هو اصطناعي. كل قرار يتخذه الذكاء الاصطناعي وكل خطوة في تطوره تطرح أسئلة عميقة حول السلطة والذاتية والقيم الإنسانية، وهي قضايا لا يمكن حلها عبر الفهم التقليدي، بل تتطلب قراءة نقدية تقوم على الفهم المتأني للتداعيات والأبعاد الخفية لهذه التقنية. ومن هنا، تتجلى أهمية التفكيك كأداة فلسفية لتفكيك المعايير السائدة وتحليل الازدواجية والغموض الذي يطرحه الذكاء الاصطناعي، ما يفتح لنا أفقاً جديداً لرؤية عصرنا بعيون ناقدة تتساءل دون توقف حول ما يعنيه أن نكون بشراً في ظل هيمنة التكنولوجيا.
شهدت العقود الأخيرة ثورة تكنولوجية غيرت بشكل جذري ملامح الحياة البشرية، وأثرت بعمق في بنية المجتمعات والأنظمة الاقتصادية والسياسية. مع تقدم الذكاء الاصطناعي، أصبحت هذه الثورة أعمق وأكثر تعقيداً، مما فرض الحاجة إلى فهم عصرنا من منظور جديد يرتكز على "تفكيك العصر" لمعرفة آثار التطورات التكنولوجية المتسارعة. يهدف هذا التفكيك إلى تحليل وتفهم أبعاد التغيرات التي تطرأ على المجتمعات والإنسانية بصفة عامة، إذ لم يعد التطور التكنولوجي مجرد مجموعة من الأدوات والابتكارات، بل هو اليوم قوة تحولية تطال حياة البشر ووجودهم، بل وطبيعة علاقتهم بأنفسهم وبالآخرين.
يأتي الذكاء الاصطناعي في طليعة هذه التغيرات كقوة رئيسية تقود العديد من التحولات، فالتكنولوجيا اليوم تسيطر على كل مناحي الحياة، بدءاً من القطاعات الاقتصادية إلى الأنظمة الصحية، ومن التعليم إلى الوظائف، ومن وسائل الإعلام إلى الأنشطة الاجتماعية وحتى العلاقات الإنسانية. ولذلك، يفرض علينا تطور الذكاء الاصطناعي أن نتناول عصرنا بالنقد والتحليل، وأن نتساءل عن مدى تأثير هذه التقنية على حياتنا ومستقبلنا.
تسارع التكنولوجيا الرقمية لا ينفصل عن تعقيدات اجتماعية وثقافية وأخلاقية وسياسية؛ فأجهزة الذكاء الاصطناعي المتقدمة اليوم أصبحت تتدخل في حياتنا بطرق لم يكن يتخيلها أحد من قبل. على سبيل المثال، أصبحت أنظمة الذكاء الاصطناعي تُستخدم لاتخاذ قرارات حيوية تشمل تحديد أهلية الأشخاص للحصول على قروض، أو حتى لتحديد من يتمتع بأهلية العلاج في بعض المستشفيات. هنا تكمن أهمية تفكيك العصر لفهم هذه التدخلات ومدى تأثيرها على القيم الإنسانية والحقوق الفردية. هذه القرارات الحاسمة تتخذها اليوم أنظمة برمجية استناداً إلى معايير محوسبة قد تكون في بعض الأحيان بعيدة عن القيم والمبادئ التي كانت تحكم المجتمعات التقليدية. وهكذا، يتعين علينا أن نتساءل عن مدى شفافية هذه الأنظمة وضرورة إخضاعها لقوانين تحكمها، بحيث لا تصبح الآلة ذاتها صانعاً للقرارات.
النقاش حول تفكيك العصر يتطلب التركيز على مسألة استقلالية الأفراد في ظل تزايد الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي. فمع دخول التكنولوجيا في حياتنا اليومية، هل ما زال الأفراد يتمتعون بالقدرة على اتخاذ قراراتهم بحرية تامة؟ تتولى أنظمة الذكاء الاصطناعي توجيه العديد من جوانب الحياة، بدءًا من الأنظمة التعليمية التي تحدد من يحصل على فرص تعليمية معينة، إلى الأسواق التي تُروج للمستهلكين بضائع بناءً على تفضيلاتهم الرقمية، وصولاً إلى وسائل التواصل الاجتماعي التي تساهم في تشكيل الرأي العام وتوجهه. بهذا، تزداد الحاجة إلى طرح تساؤلات حول مدى سيطرة هذه الأنظمة على حياتنا وهل هي حقاً أدوات تحرر أم أن لها آثارًا تحد من الحرية والاستقلالية البشرية.
في عصر الذكاء الاصطناعي، فإن تفكيك العصر يتطلب أيضاً فهماً عميقاً للأبعاد الاقتصادية. فالذكاء الاصطناعي يقلب الموازين الاقتصادية بشكل لم يسبق له مثيل، حيث يعيد تشكيل أسواق العمل، ويغير من مفاهيم الإنتاجية والفعالية، ويزيد من الفجوة بين من يمتلكون التقنية ومن لا يمتلكونها. تتزايد المخاوف من أن الذكاء الاصطناعي سيؤدي إلى زيادة البطالة في بعض القطاعات، بينما يسهم في خلق فرص عمل في مجالات أخرى. بيد أن هذا التحول يعكس تحولات أكبر في كيفية توزع الثروة وحقوق العمل ومستقبل العمالة. في ظل هذه التغيرات الاقتصادية الكبيرة، يصبح فهم آثار الذكاء الاصطناعي على الاقتصاد ضرورة ملحة، فالتقنية ليست مجرد تحسين لوسائل الإنتاج، بل هي عامل تغييري يؤثر في توزيع السلطة والثروة داخل المجتمع.
التقدم السريع في مجال الذكاء الاصطناعي يثير أيضاً أسئلة حول العلاقات الاجتماعية والقيم الثقافية. فقد أثرت هذه التكنولوجيا في طبيعة العلاقات بين الأفراد، وخلقت واقعًا جديدًا من التفاعلات الرقمية التي تهمش أحياناً التفاعل الإنساني المباشر. تعزز تقنيات الذكاء الاصطناعي التواصل الرقمي لكنها تقف أحياناً كحاجز أمام التواصل الإنساني الحقيقي. وبالتالي، فإن تفكيك العصر يمكن أن يعطينا رؤى أعمق حول ما يعنيه أن نكون بشراً في عصر الذكاء الاصطناعي، وكيفية الحفاظ على علاقات إنسانية تتسم بالتعاطف والأصالة في عالم تزداد فيه العزلة الرقمية.
من ناحية أخرى، فإن تفكيك العصر في ظل الذكاء الاصطناعي يتطلب أن نواجه التساؤلات الأخلاقية الكبرى التي تطرحها هذه التقنية. على سبيل المثال، تطرح أنظمة الذكاء الاصطناعي تحديات أخلاقية تتعلق بالخصوصية، والانحياز، والمسؤولية عن القرارات التي تتخذها هذه الأنظمة. ففي حالة الأنظمة المستخدمة في قطاع العدالة الجنائية، مثلًا، قد تؤدي أنظمة الذكاء الاصطناعي إلى قرارات تحمل انحيازاً ضد بعض الفئات، مما يؤثر على تحقيق العدالة. وتطرح هذه التحديات تساؤلات حول من يتحمل المسؤولية عندما تتخذ أنظمة الذكاء الاصطناعي قرارات تؤدي إلى آثار ضارة، ومن يضع حدود هذه التقنية ويتحكم في مجالات استخدامها. لذلك، فإن الحاجة إلى تفكيك العصر تزداد لإرساء أسس أخلاقية جديدة تتناسب مع التحولات التكنولوجية.
التكنولوجيا المتقدمة، وخاصة الذكاء الاصطناعي، تتطلب منا أيضًا أن نعيد النظر في مفاهيمنا حول التعلم والمعرفة. ففي عصر يتسم بسرعة التغيير والتحديثات المستمرة، لم يعد النظام التعليمي التقليدي قادرًا على تلبية احتياجات الأفراد والمجتمع. الذكاء الاصطناعي يوفر فرصًا غير مسبوقة في تطوير أساليب التعليم، مثل التعليم التكيفي الذي يعتمد على فهم احتياجات كل طالب على حدة وتوفير تجارب تعليمية مخصصة. ومع ذلك، فإن هذا التحول الرقمي يثير تساؤلات حول مستقبل التعليم وكيف يمكن أن نحافظ على القيم التعليمية الأساسية في عالم تتحكم فيه التكنولوجيا.
في نهاية المطاف، فإن تفكيك العصر ليس مجرد تحليل للتغيرات السطحية، بل هو رؤية عميقة لآثار الذكاء الاصطناعي على حياتنا ومستقبل البشرية. لا يمكننا أن نغفل أن الذكاء الاصطناعي يمثل إحدى أعظم الأدوات التحويلية التي يمتلكها الإنسان، لكنها أيضاً تطرح تحديات كبيرة تحتاج إلى رؤية نقدية واستعداد لإعادة صياغة الأسس التي بنيت عليها المجتمعات. هذا التفكيك يساعدنا على إدراك المخاطر والفرص التي تحملها هذه التقنية، ويعطينا القدرة على اتخاذ خطوات نحو مستقبل يتسم بالعدالة والحرية والمسؤولية في استخدام التكنولوجيا.