غزة بين المعاناة والغياب.. مفقودون بلا أثر وسط مأساة إنسانية مستمرة
في الوقت الذي يرزح فيه قطاع غزة تحت وطأة الحرب الإسرائيلية المستمرة، تتكشف مأساة إنسانية كبرى تتعلق بمئات المفقودين الذين اختفوا دون أثر بعد حملات اعتقال ومداهمات شنتها القوات الإسرائيلية.
ورغم المناشدات المستمرة من العائلات والمنظمات الحقوقية، لا يزال مصير هؤلاء الأفراد مجهولًا، وسط غياب الشفافية ورفض السلطات الإسرائيلية تقديم إجابات واضحة حول مصيرهم.
تفاصيل الحرب والمفقودين
بدأت موجة الاعتقالات الجماعية مع انطلاق العمليات البرية الإسرائيلية على غزة، حيث اتبعت القوات نمطًا قاسيًا من اقتحام المنازل واحتجاز الرجال والنساء وحتى الأطفال تحت تهديد السلاح.
وفي العديد من الحالات، تُرك الجرحى دون رعاية طبية، وتم تفريق العائلات قسرًا أثناء المداهمات.
ريم عجور (23 عامًا)، واحدة من بين عشرات الضحايا الذين عاشوا كابوسًا مؤلمًا، تروي مأساتها قائلة: "داهم الجنود منزلنا عند الفجر، أمروني بالخروج سريعًا.. كان زوجي مصابًا بشظية وابنتي الصغيرة تبكي بجانبه.. حاولت أن أُكمل طريق الخروج وأنا أحملها، لكنهم أخذوها مني وصرخوا في وجهي.. تركتهم خلفي وأنا لا أعرف إن كانوا أحياء أم أموات."
توضح ريم أن اختفاء زوجها وابنتها مسعدة منذ ذلك اليوم تركها تواجه أملًا معلقًا وخوفًا عميقًا من احتمال فقدانهم إلى الأبد.
مثل ريم، هناك مئات العائلات التي تعيش نفس المأساة، تُضاف إلى معاناة قطاع غزة المليء بالفقد والتشريد.
التقديرات وأرقام مأساوية
بحسب منظمة "هموكيد" الإسرائيلية الحقوقية، تقدّر أعداد الفلسطينيين الذين تم احتجازهم أو اختفوا أثناء العمليات العسكرية الأخيرة بنحو 900 شخص.
حوالي 500 محتجز حاليًا في مراكز اعتقال إسرائيلية وفق اعتراف الجيش الإسرائيلي.
ما يقارب 400 شخص، معظمهم من الرجال والشباب، لا يزال مصيرهم مجهولًا حتى الآن.
من بين هذه الحالات، رفعت المنظمة التماسات قانونية حول 52 شخصًا، تتضمن أطفالًا مثل الطفلة مسعدة طلال التي فُقدت أثناء مداهمة منزلها.
ومع ذلك، ترفض المحكمة العليا الإسرائيلية النظر في معظم هذه القضايا أو إصدار أحكام تُلزم الجيش بتقديم معلومات.
ممارسات عسكرية وحجم الانتهاكات
وترصد تقارير حقوقية ممارسات صارخة من قبل القوات الإسرائيلية خلال عملياتها:
1. اقتحام المنازل بالقوة: يتم تفريق العائلات وإجبارها على مغادرة منازلها دون إتاحة الوقت لجمع متعلقاتهم الشخصية أو مرافقة ذويهم الجرحى.
2. تدمير المنازل والمناطق السكنية: تشهد أحياء كاملة مثل منطقة الشجاعية وأطراف جباليا عمليات تدمير ممنهجة، حيث يتم هدم المباني بعد إخلائها أو إشعال النيران فيها.
3. اعتقالات دون تسجيل: أشارت منظمة "هيومن رايتس ووتش" إلى أن إسرائيل تعتمد سياسة احتجاز الفلسطينيين دون توثيق رسمي أو السماح للعائلات بمعرفة أماكن وجودهم.
تقول ميلينا أنصاري، الباحثة بمنظمة هيومن رايتس ووتش: "القانون الدولي يفرض على الدول توثيق جميع المعتقلين والسماح بالوصول إليهم، لكن ما نراه في غزة يخالف ذلك تمامًا. السلطات الإسرائيلية ترفض تقديم قوائم بأسماء المعتقلين، وكأنهم اختفوا في العدم."
الإطار القانوني الجديد
يشير خبراء إلى أن الأزمة تفاقمت نتيجة تعديل قانوني إسرائيلي صدر خلال العمليات العسكرية يسمح للجيش باحتجاز الفلسطينيين القادمين من غزة لمدة تصل إلى 60 يومًا دون السماح لهم بالاتصال بمحامٍ أو بالعالم الخارجي.
وهذا التعديل يمنح غطاءً قانونيًا لاستمرار هذه الممارسات ويعزز من سرية الاعتقال.
أفيخاي ماندلبليت، المستشار القانوني السابق للحكومة الإسرائيلية، دافع عن هذه الإجراءات بأنها "تدابير ضرورية في أوقات الحرب"، لكن منظمات حقوقية دولية ترى أن ذلك يُعتبر خرقًا للقوانين الإنسانية الدولية.
صرخات بلا مجيب
في غزة، تُسجّل قصص الألم يوميًا. يقول يوسف الكحلوت، وهو شاب فقد شقيقيه بعد اعتقالهما: "بحثنا عنهم في كل مكان، اتصلنا بالصليب الأحمر وبالمنظمات الدولية، لكن لا أحد يعلم شيئًا.. كل ما نريده هو أن نعرف هل هم أحياء أم ماتوا."
ويضيف: "الحرب لا تأخذ فقط أرواح الناس، بل تأخذ حقنا في أن نعرف مصير أحبائنا."
المناشدات الدولية
وفي مواجهة هذا الوضع، دعت منظمات دولية، من بينها الصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية، إلى فتح تحقيقات مستقلة بشأن أوضاع المفقودين وتقديم توثيق دقيق لأعداد المعتقلين وأماكن احتجازهم.
كما طالبت الأمم المتحدة السلطات الإسرائيلية باحترام التزاماتها بموجب اتفاقية جنيف الرابعة، التي تُلزم أي قوة محتلة بحماية المدنيين وضمان معرفة مصير المفقودين.
بين المنازل المدمرة والدموع التي لم تجف، يبقى مصير مئات الفلسطينيين في غزة لغزًا محاطًا بالصمت الرسمي والقيود المشددة.
في الوقت الذي تنتظر فيه العائلات إجابة تُطفئ نار الخوف والقلق، تظل هذه القضية شاهدة على حجم المعاناة الإنسانية التي تُضاف إلى سجل غزة الطويل من المآسي.