محادثات الرياض..خطوة نحو إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية أم مناورة دبلوماسية؟

في تطور دبلوماسي لافت، استضافت العاصمة السعودية الرياض، اليوم الثلاثاء، محادثات رفيعة المستوى بين مسؤولين من الولايات المتحدة وروسيا، بهدف بحث سبل إنهاء الصراع المستمر في أوكرانيا منذ ما يقرب من ثلاث سنوات.
يأتي هذا اللقاء في وقت حساس، حيث يقترب النزاع من دخول عامه الرابع، مخلفًا وراءه تداعيات إنسانية وسياسية واقتصادية جسيمة على الساحة الدولية.
تفاصيل اللقاء وأهدافه
ترأس الوفد الأمريكي وزير الخارجية ماركو روبيو، بينما قاد الجانب الروسي نظيره سيرغي لافروف. استمرت المحادثات لأكثر من أربع ساعات ونصف، وركزت على ثلاثة محاور رئيسية: تحسين العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، تشكيل فريق عمل عالي المستوى لدعم محادثات السلام في أوكرانيا، واستكشاف فرص التعاون الاقتصادي المستقبلي بعد انتهاء الصراع.
ورغم أهمية هذه المحاور، إلا أن غياب ممثلين عن أوكرانيا أثار تساؤلات حول فعالية هذه المحادثات وإمكانية تحقيق سلام دائم دون مشاركة الطرف المعني مباشرة.
ردود الفعل الأوكرانية والدولية
أعرب الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عن استيائه من استبعاده من هذه المحادثات، مؤكدًا أن أي اتفاق يتم التوصل إليه دون مشاركة أوكرانيا لن يكون ملزمًا أو مقبولًا.
وأشار زيلينسكي إلى أن بلاده لن تقبل بأي حلول تُفرض عليها من الخارج، داعيًا إلى ضرورة إشراك كييف في أي مفاوضات مستقبلية تتعلق بمصيرها وسيادتها.
من جانبها، أعربت الدول الأوروبية عن قلقها من استبعادها هي الأخرى من هذه المحادثات، معتبرة أن أي تسوية للصراع يجب أن تأخذ بعين الاعتبار الأمن والاستقرار في القارة الأوروبية بأكملها. وفي هذا السياق، شدد رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، على أهمية وجود ضمانات أمنية حقيقية لأوكرانيا، مؤكدًا أن مشاركة الولايات المتحدة في تقديم هذه الضمانات أمر حيوي لتحقيق سلام دائم.
الموقف الروسي والأمريكي

أكد الكرملين، على لسان المتحدث باسمه دميتري بيسكوف، استعداد الرئيس فلاديمير بوتين للتفاوض مع زيلينسكي "إذا لزم الأمر"، لكنه أشار إلى ضرورة مناقشة الإطار القانوني لأي اتفاق محتمل، معربًا عن شكوك موسكو بشأن شرعية زيلينسكي بعد انتهاء ولايته الرسمية في مايو 2024. كما أبدت روسيا معارضتها لانضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو)، معتبرة ذلك تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي.
من الجانب الأمريكي، أوضح وزير الخارجية ماركو روبيو أن هذه المحادثات تمثل بداية لمسار طويل ومعقد نحو تحقيق السلام، مؤكدًا التزام واشنطن بمواصلة الحوار مع موسكو والعمل على تطبيع العلاقات الثنائية. وأشار روبيو إلى أن الولايات المتحدة ستعيد تفعيل بعثاتها الدبلوماسية في روسيا كجزء من الجهود المبذولة لتحسين العلاقات والتعاون في مختلف المجالات.
دور السعودية في الوساطة
تأتي استضافة السعودية لهذه المحادثات في إطار مساعيها لتعزيز الأمن والسلام على الصعيدين الإقليمي والدولي. وقد أعربت المملكة عن أملها في أن تسهم هذه الجهود في تقريب وجهات النظر بين الأطراف المعنية، وصولًا إلى حل سلمي ينهي معاناة الشعب الأوكراني ويعيد الاستقرار إلى المنطقة.
وفي هذا السياق، أكد وزير الخارجية السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، أن المملكة ستواصل دعمها لكل المبادرات التي تهدف إلى تحقيق السلام والأمن الدوليين.
تحديات وآفاق المستقبل
رغم الأجواء الإيجابية التي سادت المحادثات، إلا أن هناك العديد من التحديات التي قد تعرقل مسار السلام المنشود. فغياب أوكرانيا عن هذه المفاوضات يثير تساؤلات حول شرعية وفعالية أي اتفاق محتمل.
كما أن التباينات في مواقف الأطراف المعنية، خاصة فيما يتعلق بقضايا السيادة والأمن والانضمام إلى التحالفات العسكرية، قد تعقد من فرص التوصل إلى تسوية شاملة.
مع ذلك، يرى بعض المراقبين أن هذه المحادثات قد تمهد الطريق لمفاوضات أوسع تشمل جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك أوكرانيا والدول الأوروبية، بهدف الوصول إلى حل يراعي مصالح الجميع ويضمن استدامة السلام في المنطقة.
ويبقى الأمل معقودًا على استمرار الجهود الدبلوماسية وتغليب لغة الحوار على لغة السلاح، لتحقيق تطلعات الشعوب في الأمن والاستقرار.
تشكل محادثات الرياض خطوة مهمة في مسار البحث عن حل للأزمة الأوكرانية، لكنها تبقى خطوة أولى تحتاج إلى مزيد من الجهود والتنسيق بين جميع الأطراف المعنية. فالمسار نحو السلام الدائم يتطلب إرادة سياسية حقيقية، واستعدادًا لتقديم التنازلات المتبادلة، ووضع مصلحة الشعوب فوق كل اعتبار.
وفي ظل التعقيدات المحيطة بهذا النزاع، يبقى الحوار البناء والشفاف السبيل الأمثل لتحقيق السلام المنشود.
ويعود الصراع الروسي الأوكراني إلى جذور تاريخية عميقة ومعقدة، تتداخل فيها الأبعاد السياسية، الثقافية، والجغرافية. لفهم هذا الصراع بشكل أعمق، يجب استعراض التطورات التاريخية التي شكلت العلاقة بين البلدين، بالإضافة إلى الأحداث المعاصرة التي أدت إلى تفاقم التوترات بينهما.
الجذور التاريخية للعلاقة الروسية الأوكرانية
تعود أصول العلاقة بين روسيا وأوكرانيا إلى العصور الوسطى، حيث نشأت دولة "كييف روس" في القرن التاسع الميلادي، والتي تعتبرها كل من روسيا وأوكرانيا سلفًا تاريخيًا لهما. مع مرور الزمن، خضعت الأراضي الأوكرانية لسيطرة قوى مختلفة، بما في ذلك الكومنولث البولندي الليتواني والإمبراطورية النمساوية، مما أثر على الهوية الثقافية والدينية للمنطقة.

في القرن الثامن عشر، ضمت الإمبراطورية الروسية أجزاء كبيرة من أوكرانيا، واستمرت هذه السيطرة حتى أوائل القرن العشرين. بعد الثورة البلشفية عام 1917، أعلنت أوكرانيا استقلالها لفترة وجيزة، لكنها سرعان ما أُدمجت في الاتحاد السوفييتي الناشئ. خلال الحقبة السوفييتية، شهدت أوكرانيا أحداثًا مأساوية، أبرزها مجاعة "هولودومور" في ثلاثينيات القرن الماضي، والتي لا تزال نقطة خلافية في العلاقات بين البلدين.
تفكك الاتحاد السوفييتي وبروز التوترات
مع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، أعلنت أوكرانيا استقلالها، واعترفت روسيا بحدودها في عام 1997. ومع ذلك، ظلت التوترات قائمة، خاصة مع توجه أوكرانيا نحو تعزيز علاقاتها مع الغرب. في عام 2004، شهدت أوكرانيا "الثورة البرتقالية"، حيث اندلعت احتجاجات واسعة ضد نتائج الانتخابات الرئاسية، مما أدى إلى إعادة الانتخابات وفوز المرشح الموالي للغرب، فيكتور يوشينكو. هذا التحول السياسي أثار قلق موسكو، التي رأت في هذه التحركات تهديدًا لنفوذها في المنطقة.
الأحداث المفصلية في الصراع الحديث
في عام 2014، تصاعدت التوترات بشكل حاد بعد الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا، فيكتور يانوكوفيتش، عقب احتجاجات شعبية واسعة. ردًا على ذلك، قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم، مستندة إلى استفتاء محلي لم تعترف به أوكرانيا والمجتمع الدولي. بالإضافة إلى ذلك، اندلعت نزاعات مسلحة في منطقتي دونيتسك ولوغانسك بشرق أوكرانيا، حيث أعلن الانفصاليون الموالون لروسيا استقلالهم، مما أدى إلى صراع مستمر مع القوات الأوكرانية.
سعت الجهود الدولية إلى تهدئة الوضع من خلال "اتفاقيات مينسك" في عامي 2014 و2015، والتي هدفت إلى وقف إطلاق النار ووضع خارطة طريق لحل النزاع. ومع ذلك، لم تُنفذ هذه الاتفاقيات بشكل كامل، واستمرت الاشتباكات المتقطعة والتوترات السياسية بين الجانبين.
الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022
في 24 فبراير 2022، شنت روسيا عملية عسكرية واسعة النطاق في أوكرانيا، معلنةً أنها تهدف إلى "نزع السلاح وتخليص أوكرانيا من النازية"، في إشارة إلى مزاعمها بوجود تهديدات من القوميين الأوكرانيين للناطقين بالروسية. هذا الغزو أدى إلى إدانات دولية واسعة وعقوبات اقتصادية غير مسبوقة على روسيا. كما تسبب في أزمة إنسانية كبيرة، مع نزوح ملايين الأوكرانيين وتدمير واسع للبنية التحتية.
الأبعاد الجيوسياسية للصراع
يُعتبر الصراع الروسي الأوكراني جزءًا من سياق أوسع يتعلق بالعلاقات بين روسيا والغرب. ترى موسكو في توسع حلف شمال الأطلسي (الناتو) شرقًا وازدياد نفوذ الاتحاد الأوروبي في دول كانت سابقًا ضمن مجال نفوذها تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي. من ناحية أخرى، تسعى أوكرانيا إلى تعزيز سيادتها واستقلالها من خلال التقارب مع المؤسسات الغربية، مما يزيد من تعقيد المشهد السياسي والأمني في المنطقة.
الصراع بين روسيا وأوكرانيا هو نتاج تداخل معقد للعوامل التاريخية، الثقافية، والجيوسياسية. فهم هذه الخلفيات يساعد في استيعاب جذور الأزمة الحالية والتحديات التي تواجه جهود السلام والاستقرار في المنطقة.