فهد سليمان الشقيران يكتب: «حروب عبثية وأخرى ضرورية»

يبدو العالم اليوم أكثر حيويّةً رغم الشؤم والألم الإنساني العاليين. ونهاية كل حدثٍ عادةً تكون في وصوله إلى ذروته واستنفاد طاقته القصوى. حتى الآن لم تصل الأزمات في الإقليم إلى هذا المعنى، بل تخطّتْه إلى تطورات وإجراءات كبرى تتعلّق بالاقتصاد والسياسة والاجتماع وأفكار السلام والحرب. في الاقتصاد ثمة إجراءات الرسوم الجمركية التي زلزلت عالم السياسة والمال.
حتى كتابة هذه المقالة هناك تواصل كثيف بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكلٍّ من إسرائيل واليابان والصين وروسيا وتركيا وأوكرانيا. الموضوع يتطوّر وبسرعة، وما كان تراجع عوالم الأسواق إلا نتيجةً لهذا الوضع العالمي الجديد. مَن يدري؟! لعل الحروب في بعض الأحايين تكون ضرورية، ولكن حين يغامر بعض الأطراف بخوضها مع عدم الدرس لقوّة الطرف الآخر واستراتيجياته التي يعمل عليها منذ عقود؛ يُعدّ ضرباً من المغامرة غير العاقلة.
نعم للحروب وظيفتها؛ كما أن للسلام دوره وأثره، وعبر التاريخ أخذت الحروب حيزها من الدرس والتحليل، فالحرب ذروة قصوى من ذروات التاريخ على أثرها تتشكّل جغرافيا جديدة، وتُوضع على الأرض إمكانات مختلفة، وتتحول مسارات كثيرة، فالحروب هي الوسيلة الأجدى أحياناً من أجل صناعة السلام.
والدراسات التي تتحدث عن الحرب والتاريخ والإنسان كثيرة، وهي تتراوح بنتائجها بين القبول والرفض، لذلك يمكن تلخيص قصة الموقف من الحرب بأنه صراع بين مقولتَيْن، ونظريتَيْن، فاليونانيون عاشوا الحروب الطاحنة وخبروا الحرب، ولذلك عدها هيراقليطس «ربة الأشياء»، فهو فيلسوف الصيرورة والنار، ولذلك يرى في الحرب وسيلة فاعلة في تصيير الأشياء وتسريع حركة التاريخ، على نقيضه عدو الحرب كانط الذي ألّف كتيبه الشهير «نحو سلام دائم»، به يعرض خطة لإنهاء فكرة الحرب واستبدال أفكار أخرى أخلاقية بها يمكنها جعل الصراع بين الأمم أكثر تطوراً من فكرة الحرب.
بينما فوكوياما، يعدّ الحرب جزءاً من حيوية التاريخ، وصاحب مقولة نهاية التاريخ التي استقاها من تنويع فاتيمو على هيغل لا يمكن أن يعارض الحرب؛ لأنها أساسية في عصب الحديث الهيغلي حول صراع الأضداد وخلق احتمالاتٍ وإمكانات جديدة وصياغة تحولاتٍ مختلفة ونمط عالمي جديد.
والحرب تنتج وقائع مختلفة وأساليب متنوعة، فلو تأملنا في حرب الخليج الثانية 1990 لوجدنا كيف امتدّ أثرها الاقتصادي والثقافي والاجتماعي حتى الآن. ثمة حروب ضرورية يفرضها التاريخ، وتوجبها صيرورة الحياة؛ بغية تشكيل أنماطٍ أخرى. ثمة فرق شاسع بين الحروب الضرورية التي تقودها الدول، والممارسات الميليشياوية التي تمارسها الفصائل، في الأولى تأخذ الحرب حيّزها السياسي، أما الأخرى فتقود الآيديولوجيا كل أفكار الحرب، وهنا تكمن الكارثة.
إن الحروب والمناوشات التي نشهدها اليوم هي أساس تمكّن التاريخ من الشهادة على الواقع، ومن دون هذه الصراعات الجهنمية فإن الحالة البشرية تغدو متكلسة، يائسة، خاملة، بالحروب تخلق توازنات ويتغيّر ميزان القوى، وما تكون الكفة على رجحان واحد. العالم كان بحاجة ماسة إلى أقطاب جديدة وأحلاف مختلفة وفضاءات غير اعتيادية، لذلك سيتغير الوضع الاقتصادي والسياسي بشكل كبير مع هذه الصراعات الكبرى. إن الحرب جزء أساسي من تطور الإنسان، ومن دونها لا يستطيع صناعة نقلات أخرى نحو تجارب مختلفة، فلولا الحروب والتفكير في الحروب لما تطورت حتى التقنيات التي نكتب بها.
الخلاصة أننا أمام عالم جديد يتشكّل؛ إنه ما بعد النظام العالمي القديم، والحروب هي ضمن الحتمية التي تفرضها حيوية الزمن، وحركة التاريخ، ونحن ندرك أن هذه المآسي مؤلمة للغاية. فلسفة الحرب تثمر نتائج بدهية منها التغيير الديموغرافي، والثقافي، والذهاب لما هو أبعد من الانتصار الاعتيادي، وهذه مشكلة أساسية تستحق الدرس.
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».