عبد الله الدردري يكتب: «لا بد من تعظيم عوائد أموال المساعدات في السودان»

بعد عامين من الحرب، لا يزال السودان يُمثل أكبر أزمة إنسانية في العالم، إذ يُعاني 25 مليوناً من السكان من أجل الحصول على ما يكفيهم من الطعام، ويظل أكثر من 12 مليوناً من النازحين بعيدين عن ديارهم. وتبقى لدى كل سوداني قصة رعب يرويها، سواء عانى منها بنفسه، أو عايشها أحد أفراد عائلته، أو أصدقائه.
هذا الوضع يُشكّل تهديداً حقيقياً لحياة الناس في السودان، في ظل تناقص إمدادات الغذاء وإغلاق المرافق الصحية. فبينما كانت بعض الأسر قادرة الأسبوع الماضي على إطعام أطفالها من خلال مطابخ الطوارئ التي توفر وجبات أساسية، تجد اليوم أبواب هذه المطابخ مغلقة. وحتى إن كانت العيادات المحلية لا تزال مفتوحة - رغم أن نحو 75 في المائة من المرافق الصحية قد توقفت عن العمل - فإنها تعاني نقصاً حاداً في الأدوية الأساسية لعلاج أمراض خطيرة قابلة للعلاج، مثل السل والإسهال.
لهذا؛ يتعين علينا إيجاد سبلٍ عاجلة للحدّ من هذه المعاناة من خلال تحقيق أقصى استفادة من أموال المساعدات الإنسانية، بما يشمل دعم السودانيين لمساعدة أنفسهم بما يتجاوز الاعتماد على المساعدات، واستخدام أموال المساعدات الإنسانية لتعزيز وتوسيع انخراط القطاع الخاص في الاستجابة للأزمات.
وجاء هذان الأمران على رأس المطالب التي عبّر عنها ممثلو المجتمع المدني وقادة الأعمال في لقاءاتي بهم خلال زيارتي الأخيرة للسودان، وهي مطالب أعادت صدى أفكار مماثلة جالت في خاطري وقت اندلاع الحرب في بلدي، سوريا، قبل نحو خمسة عشر عاماً. فمثل السودانيين - بل ومثل الجميع في أوضاع مماثلة - لم نرد في حينها تلقي مساعدات لتعيلنا، إنما أردنا الحفاظ على قدرتنا على إعالة أنفسنا، وهو ما رأيناه أفضلَ استعداد «لليوم التالي» ما بعد انتهاء الحرب.
اليوم، يبقى الوضع العسكري على الأرض في السودان متقلباً، ولكن في الكثير من المناطق نشهد بعض التحسن في الأوضاع الأمنية، وأصبحنا نرى بعض الناس يشرعون في العودة إلى منازلهم، متكدسين في حافلات صغيرة، حاملين ممتلكاتهم عبر مئات الكيلومترات من شواهد الدمار.
وفي كثير من الأحيان، تقود النساء رحلات العودة إلى الديار، ففي السودان، كما في معظم البلدان التي شهدت نزاعات، كانت النساء هن من تحمّلن العبء الأكبر للحرب. وغالباً ما تكون رحلة العودة في مثل تلك الأحوال رحلة قلق، وأمل؛ إذ تتنازع الأفكار في خلد العائد: ماذا تبقى من منزلي ومزرعتي؟ هل نُهِب متجري؟ هل سُرقت أدواتي؟ وبالنسبة للكثيرين، تتصادم فرحة العودة مع واقع صعب من الرفوف الفارغة في المتاجر، وصعوبة البدء من جديد لاستعادة سبل العيش، من دون أدوات، أو بذور، أو بضائع.
لكن من الممكن أن يكون تمكين المزارعين من استعادة سبل عيشهم أمراً بسيطاً من خلال توفير الأدوات الأساسية، والبذور المقاومة للجفاف، والحلول الفعالة من حيث التكلفة، مثل مضخات المياه التي تعمل بالطاقة الشمسية والتي تمكنهم من فلاحة أراضيهم من جديد، والعمل خلال انقطاع الكهرباء.
ولقد قام برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بتجربة هذا النهج بنجاح في محافظات كسلا، والقضارف، ونهر النيل، حيث ساعدنا المزارعين على زيادة محاصيلهم، وإنشاء حدائق منزلية في أراضٍ غير مستغلة. وساهم ذلك في إطعام الأسر، وزيادة إمدادات الغذاء، وتعزيز الاقتصاد المحلي، حيث أُعيد استثمار الأرباح لتوسيع الإنتاج؛ ما أتاح لنا المضي قدماً لدعم مجتمعات محلية أخرى.
وهناك نهج آخر على قدر مماثل من الأهمية، ويتمثل في الاستفادة من تمويلات المساعدات الخارجية لتوسيع نطاق إشراك القطاع الخاص في الاستجابة للأزمة. وقد شهدتُ ذلك خلال فترة عملي في أفغانستان، حيث استخدم برنامج الأمم المتحدة الإنمائي مليوني دولار أميركي من التمويل للتعاون مع القطاع الخاص الوطني لتوفير قروض بقيمة 20 مليون دولار أميركي للشركات الصغيرة. وبفضل هذه القروض، تمكن مزارعون، ورواد الأعمال من توسيع نطاق أعمالهم. ولاحقاً، أتاحت لهم زيادة الأرباح سداد القروض، وقلّلت حاجتهم إلى الدعم الخارجي.
وفي السودان، أطلقنا مؤخراً برنامجاً تجريبياً مماثلاً لتوفير قروض بقيمة 5 ملايين دولار للأشخاص الذين عادةً ما يكونون محرومين من الخدمات المالية. ولاحقاً، ومع نمو أعمالهم، ستزداد قدرة المجتمعات المحلية على شراء الغذاء، والدواء، وغيرها من الضروريات.
إن هذين النهجين يتطلبان تغييراً في ذهنية التعامل مع الأزمات، وتحفيز التعافي من آثارها، حتى يتسنى للتنمية المستدامة أن تسير جنباً إلى جنب مع المساعدات الطارئة.
وإذ نأمل جميعاً في تحقيق سلام سريع ودائم في السودان، وتشجعنا مشاهد العائدين إلى ديارهم كونها دليلاً على ثقة الشعب بمستقبل البلاد، ونحن واقعيون، وندرك تماماً أنه حتى لو أُعلن السلام اليوم، فسيظل الطريق طويلاً لإصلاح الأضرار التي خلفتها الحرب.
ومن الأهمية أن ندعم الأسر والمجتمعات المحلية حتى تتمكن من تحمل الصدمات الحالية، حتى تكون مستعدة للاستفادة القصوى من السلام عندما يأتي.
* الأمين العام المساعد للأمم المتحدة
ومدير المكتب الإقليمي للدول العربية في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».