رضوان السيد يكتب: «البابا فرنسيس والسلام مع الإسلام»

نبالغ نحن، عرباً ومسلمين، في اكتشاف الإيجابيات وتقديرها، كما في النعي على السلبيات. والإيجابي الذي نتحدث عنه هنا تصريحات لعربٍ ومسلمين بعد وفاة البابا فرنسيس أنّ السلام مع الإسلام كان أولويته العظمى! وكما أعرف من خلال المتابعة الحثيثة منذ عام 2015 أنّ أولوية الكاردينال الأرجنتيني الذي تسنّم سدة البابوية عام 2013 على أثر استقالة سلفه بنديكتوس، كانت الإصلاح الداخلي في الكنيسة. وربما كان تركيزه الثاني على العلائق بالفئات المهمشة في العالم. ولا شكّ أنّ اهتمامه بالإسلام جاء بالمنزلة الثالثة في نشاطاته المتكاثرة إبّان بابويته وربما قبل ذلك.
أقول إنه ربما فكر في العلاقات مع المسلمين إبان الولاية. فقد اتخذ لنفسه اسماً كسائر البابوات من قبل، وكانت لاسمه الجديد علاقاتٌ بالإسلام. فالقديس فرنسيس الأسيزي (1180 - 1226) مؤسس رهبنة الفرنسيسكان هناك خطان كبيران في سيرته وحياته القصيرة: الاهتمام بالفقراء والجوعى والمرضى بالأوبئة، حيث انتشر البؤس في وسط أوروبا بسبب الطواعين - والخط الآخر اهتمامه بالسلام مع المسلمين وقد كانت الحروب بين الطرفين لا تزال مشتعلة منذ جاء فرسان أوروبا إلى المشرق قبل قرن ونيف. استشرف الأسيزي آمالاً بالسلام منذ عقد الملك الكامل الأيوبي (1180 - 1238) ملك مصر هدنة مع الصليبيين وأعاد إليهم القدس بعد محاصرتهم لها! المهم جاء الأسيزي إلى القاهرة وقابل الملك الكامل ولا ندري ماذا كان موضوع المحادثات، لكنه أُكرم في الاستقبال والمغادرة. والمؤرخون المسلمون لا يذكرون شيئاً عن زيارة الأسيزي، أما المؤرخون الصليبيون فيزعمون أنه ذهب يدعوه لاعتناق المسيحية بعد ملاحظة ميله للسلام (!). والواقع أن التاريخ ليس خبراً عن البشر وحسب كما يقول ابن خلدون، بل التاريخ هو أيضاً خيارات واختيارات وتأويلات، وخلال القرون اللاحقة انتصرت مقاربة السلام في رؤية رحلة الأسيزي إلى الكامل؛ إذ ألحقوه بعمه صلاح الدين الذي آثر السلام أيضاً.
لقد أطلتُ الاستطراد لأنّ البابا فرنسيس واعتبر السلام العالمي والسلام مع المسلمين بين أولوياته. واعتبر سيرة الأسيزي قدوةً له في حرصه على زيارة ديار الإسلام وطلبه للسلام. في خطبته الأولى بعد الانتخاب قال البابا فرنسيس إنّ السلام العالمي تحوط به أخطار كثيرة وكبيرة، ولا بد من صونه بكل سبيل؛ لأن الحرب شقاء ومعاناة وقتل للإنسان وتدمير للعمران، ولا بد من الالتفات إلى الشقاء بالحروب في ديار الإسلام، فلا سلام في العالم إلا بالسلام مع الإسلام والمسلمين. وتكررت نداءاته للسلام العالمي والسلام مع الإسلام في خطاباته السنوية. وقد زار خلال بابويته سبعة بلدان عربية وإسلامية. وفي كل رحلة كانت هناك الإشادة بالحوار وبالتعاون ومبادرات تقتضيها الرحمة الإلهية التي يقول بها المسيحيون والمسلمون باعتبارها مناط علاقة الله عز وجل ببني البشر. بيد أنّ ذروة رحلاته ومبادراته في نطاق الصداقة والتضامن والزمالة الدينية كانت في زيارته لأبوظبي وإعلانه عن وثيقة الأخوة الإنسانية مع شيخ الأزهر أحمد الطيب في 4 فبراير (شباط) 2019.
تتألف الوثيقة من مقدمةٍ مبدئية في الإيمان والرحمة الإلهية التي تغمر سائر البشر ممن أنعم الله عليهم بالإيمان، ومن يحوطهم عز وجل بعنايته أياً كانت قناعاتهم. ثم بعد ذلك ترسم الوثيقة جدولاً طويلاً للمشكلات الإنسانية بعامة وتدعو القادة العالميين والقادة الدينيين لمقاربتها بالنزوع القيمي والأخلاقي الكبير. وتجد الوثيقة أن الحوار الديني والأخلاقي والإنساني ينبغي أن يتكثف ويتجاوز كل الصعوبات، ويصير بالتعارف والاعتراف سبيلاً لخير الإنسانية وسلامها.
ذكر لنا يوأنّس الكاهن المصري الأصل الذي كان وقت توقيع الوثيقة سكرتيراً للبابا فرنسيس أنّ الوثيقة اقتضت شجاعةً ونزاهةً من الطرفين. ومما له دلالته أن يكون مبدأ الأخوة (الذي يعتنقه المسلمون) هو عنوان الوثيقة وخاتمتها.
في رسائل البابا فرنسيس السنوية ظل يعود لوثيقة الأخوة ذكراً واقتباساً، ويقرن ذلك بقيم الجوار والضيافة التي ينبغي أن تسود في العلاقة بالمهاجرين. وعندما زار مخيمات لاجئي الروهينغا في بنغلادش على الحدود مع ميانمار التي فروا منها؛ قال إنّ إنكار الأخوة بين البشر هو تنكرٌ لإنسانية الإنسان!
كان آخر كلام البابا فرنسيس قبل وفاته بساعات الدعوة لإنهاء الحربين في أوكرانيا وفلسطين. وربما كرر ذلك على مسامع نائب الرئيس الأميركي الذي تحدث إليه أيضاً.
كان البابا فرنسيس - بحسب شيخ الأزهر والملك المغربي - هو رجل الدين المسيحي الأكثر حساسيةً تجاه آلام المسلمين ومشكلاتهم منذ مجمع الفاتيكان الثاني. والأمل أن تبقى مواريثه في الكنيسة العريقة.
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».