«الهيدروجين الأبيض».. كنز دفين يعيد رسم خريطة الطاقة في العالم

في سباق عالمي محموم نحو طاقة أنظف وأكثر استدامة، يبرز الهيدروجين الأبيض كمرشح واعد لإحداث تحول جذري في مشهد الطاقة العالمي.
لم يعد مجرد اكتشاف جيولوجي عابر تحت سطح الأرض، بل بات "الذهب الأبيض" الذي تتسابق كبريات شركات الطاقة والتعدين لاكتشافه واستثماره، طمعًا في مورد لا يحتوي على كربون ويخلف ماءً فقط عند استخدامه.
ففي وقت تتعثر فيه مشروعات الهيدروجين الأخضر تحت وطأة التكلفة، ويفرض الوقود الأحفوري كلفته المناخية الباهظة، يظهر الهيدروجين الطبيعي كخيار "محلي الصنع"، يَعِد بتقليل الانبعاثات وتوفير بديل طاقوي نظيف ومتوفر.
وبينما تشهد كندا والولايات المتحدة وكبرى الاقتصادات اندفاعًا جديدًا للتنقيب عن هذا الوقود النقي، يترقب العالم ما إذا كان هذا الاكتشاف القديم سيقود ثورة طاقة جديدة.
يتزايد عدد الشركات الكبيرة، من عمالقة التعدين إلى شركات الطاقة الكبرى، التي تحتضن الموجة المتنامية حول الهيدروجين الطبيعي.
ويأتي هذا في ظل استمرار تزايد الضجيج حول إمكانات مورد، يقول مؤيدوه إنه قد يُحدث تغييرًا جذريًا في مشهد الطاقة العالمي.
ويُشير الهيدروجين الطبيعي، المعروف أحيانًا باسم الهيدروجين الأبيض أو الذهبي أو الجيولوجي، إلى غاز الهيدروجين الموجود في شكله الطبيعي تحت سطح الأرض.
وهذا المورد الذي طال إغفاله، والذي اكتُشف لأول مرة بالصدفة في مالي قبل ما يقرب من 40 عامًا، لا يحتوي على الكربون، ولا يُنتج سوى الماء عند حرقه، وفق شبكة سي إن بي سي.
وشهد قطاع الهيدروجين الطبيعي الناشئ تزايدًا في الأشهر الأخيرة، مما عزز التفاؤل الذي كان مدفوعًا في البداية بشركات الأبحاث الناشئة وشركات الاستكشاف الناشئة.
وعلى مدار العام الماضي، كان من بين الداعمين الراسخين للقطاع شركتا التعدين العملاقتان ريو تينتو وفورتيسكو، وشركة الطاقة الروسية العملاقة المملوكة للدولة غازبروم، وذراع رأس المال الاستثماري لشركة النفط البريطانية العملاقة بي بي، وصندوق الاستثمار في التكنولوجيا النظيفة التابع لبيل غيتس "بريكثرو إنرجي فينتشرز".
وتُجرى حاليًا جهود استكشافية في عدة دول حول العالم، وتتصدر كندا والولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول من حيث عدد المشاريع خلال العام الماضي في الهيدروجين الطبيعي، وفقًا لبحث نشرته شركة الاستشارات "ريستاد إنرجي".
ويتوقع المحللون أن يكون العام المقبل عامًا محوريًا، حيث يأمل العاملون في هذا القطاع أن تُسهم حملاتهم الاستكشافية في تحديد موقع الغاز قريبًا.
ومع ذلك، لا يزال البعض غير مقتنع بإمكانيات الهيدروجين الطبيعي كطاقة نظيفة، إذ يُشير النقاد إلى مخاوف بيئية وتحديات في التوزيع.
من جانبها، حذّرت وكالة الطاقة الدولية من احتمال أن يكون هذا المورد "متناثرًا للغاية بحيث يصعب استغلاله بطريقة مجدية اقتصاديًا".

تدافع عالمي على "الذهب الأبيض"
وصرح "مينه خوي لي"، رئيس أبحاث الهيدروجين في شركة ريستاد إنرجي، بأنه من الصعب التنبؤ بمدى قدرة الهيدروجين الطبيعي على الوفاء بوعوده بحلول عام ٢٠٢٥.
وقال لي لشبكة CNBC، "أعتقد أن العام الماضي كان العام الذي شهد تطورًا ملحوظًا في مجال الهيدروجين الطبيعي، إذ بدأت العديد من الشركات في التخطيط لحملات الحفر واختبارات الاستخراج، وبدأنا نشهد مشاركة بعض الشركات الكبرى".
وأضاف، "منذ ذلك الحين، أعتقد أن التقدم كان بطيئًا نسبيًا، إذ لم تبدأ سوى شركات قليلة الحفر فعليًا".
وقال لي، من شركة ريستاد، والذي وصف السعي العالمي وراء الهيدروجين الطبيعي بـ"الاندفاع نحو الذهب الأبيض" العام الماضي، إنه على الرغم من عدم إحراز أي تقدم يُذكر خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، إلا أن ازدياد اهتمام المستثمرين قد يُسهم في تحقيق نتائج ملموسة.
وأضاف، "بدأنا نرى شركات تحصل على استثمارات، ما يُتيح لها تمويل حملات الحفر، لذا، إذا أردنا الحصول على إجابة حول مدى نجاح هذا الأمر، فسنصل إلى هذا الاستنتاج أسرع هذا العام".
ولطالما اعتُبر الهيدروجين أحد مصادر الطاقة المحتملة العديدة التي قد تلعب دورًا رئيسيًا في التحول في مجال الطاقة، إلا أن معظمه يُنتَج باستخدام الوقود الأحفوري كالفحم والغاز الطبيعي، وهي عملية تُولّد انبعاثات كبيرة من غازات الاحتباس الحراري.
ويُعدّ الهيدروجين الأخضر، وهو عملية تتضمن فصل الماء إلى هيدروجين وأكسجين باستخدام الكهرباء المتجددة، استثناءً من ضمن مشتقات الهيدروجين.
ومع ذلك، فقد تأخر تطويره بسبب ارتفاع التكاليف والبيئة الاقتصادية الصعبة.

طاقة نظيفة محلية الصنع
وأعلنت شركة هاي تيرا الأسترالية عن استثمار بقيمة 21.9 مليون دولار أمريكي من شركة فورتيسكيو في أغسطس من العام الماضي، مشيرةً إلى أن العائدات ستُستخدم لتمويل مشاريع استكشاف موسعة بالكامل.
وصرح متحدث باسم شركة فورتيسكيو، إحدى الشركات الرائدة في تطوير الهيدروجين الأخضر، بأن توجه الشركة نحو قطاع الهيدروجين الطبيعي يتماشى مع "التزامها الاستراتيجي باستكشاف أنواع وقود خالية من الانبعاثات".
وأقرّ المتحدث باسم فورتيسكيو بالحاجة إلى مزيد من العمل لتقييم انبعاثات الهيدروجين الطبيعي بشكل كامل، ووصف هذه التقنية بأنها "فرصة واعدة" لتسريع عملية إزالة الكربون من الصناعة.
وفي سياقٍ آخر، قادت شركة BP Ventures، ذراع رأس المال الاستثماري لشركة BP، جولة تمويل من الفئة A لشركة Snowfox Discovery، الشركة البريطانية الناشئة في مجال استكشاف الهيدروجين الطبيعي، في وقتٍ سابق من هذا العام.
بينما تلقت شركة Mantle8 الفرنسية الناشئة مؤخرًا تمويلًا تأسيسيًا بقيمة 3.4 مليون يورو (3.9 مليون دولار) من مستثمرين، من بينهم Breakthrough Energy Ventures، وهو صندوق متخصص في المناخ والتكنولوجيا أسسه بيل غيتس عام 2015.
وصرح إريك تون، كبير مسؤولي التكنولوجيا في Breakthrough Energy، بأن الصندوق دعم شركاتٍ مثل Mantle8 وشركة Koloma الأمريكية الناشئة، لأن الهيدروجين الطبيعي يُبشر بعصرٍ جديد من الطاقة النظيفة والمُنتجة محليًا.
وصرح تون لشبكة CNBC، "الهيدروجين طاقة كيميائية تفاعلية نقية، إذا كان لدينا ما يكفي من الهيدروجين وبسعرٍ رخيص، يُمكننا فعل أي شيء تقريبًا، يُمكننا استخدامه في صناعة المعادن، والوقود، وحتى في صناعة الطعام، وكل ذلك بانبعاثات أقل بكثير من الطرق التقليدية".
ونحن نعلم أنه موجود، وليس فقط في بؤر معزولة، وقد كشفت الاستكشافات المبكرة عن وجود الهيدروجين الطبيعي في ست قارات، ويكمن التحدي الآن في كيفية استخراجه بكفاءة، ونقله بأمان، وبناء الأنظمة اللازمة لتشغيله.
ورغم الحماسة المتزايدة والآمال الكبيرة المعلّقة على الهيدروجين الأبيض كمصدر طاقة نظيف وطبيعي، لا تزال الطريق أمامه محفوفة بالتحديات؛ بدءًا من صعوبة الاستخراج وتفاوت التوزيع الجغرافي، وصولًا إلى غياب البنية التحتية لنقله وتخزينه بكفاءة.
لكن ما يدفع التفاؤل قدمًا هو الزخم الاستثماري العالمي، والدعم الذي يحظى به من شركات كبرى وصناديق مناخية رائدة، مما قد يجعل من هذا "الكنز الخفي" محورًا رئيسيًا في مستقبل الطاقة النظيفة، إذا ما أثبت جدواه الاقتصادية والبيئية في السنوات القليلة المقبلة.