الدكتور ظافر العاني يكتب: ساقي العطاش

مرَ من بين الفرسان مهيبًا كبيرًا محاطًا بالجلال، وعلى حين بغتة جاءته أكثر من نبلة تلقاها بجسده وانتزعها بيديه لايبالي بالدم الذي سال ولا الوجع الذي تركته، وتقصدت السهامُ الرايةَ فتشقق بعضها، لكنها بقيت خفاقة عالية، أكثر ماكان يغيضهم تلك الراية التي حملها الأب الوصي في نزالاته التي خرج منها مكللًا بمجد الانتصارات.
ملأ القربة ماءً وعاد للصغار يوزع بينهم قطراتها، وعيناه على الرضيع الذي ابتلت شفتاه فارتوت وعادت لوجهه سيماء العافية، نادته العيالُ من جديد: ياساقي العطاش هلا شربة ماء.
استأذن السيد الذي أشفق عليه من المتربصين حول الغدير لكنه مضى لطريقه وصوت الصغار يلح في الضمير اليقظ.
متغافلًا من أعين الرماه، ملأ القربة من جديد ووضعها في عنقه مثل وعد ينتظر الوفاء، فجاءة سهم لم يستطع أن يتقيه وغاص بعيدًا في صدره الرحب، حاول أن يخرجه فانكسر، احتمل الألم الممض ومضى صوب الخيام يستحثُ الخطو قبل النهاية فعاجله رمحٌ في منتصف الظهر فجثا على ركبتيه من هول الألم لكن الرايةَ بقيت في يديه، والقربةُ مدلاة على صدره، يا لتلك الكف العظيمة التي تمسك بها، أي معصم هذا الذي ما زال متشبثًا بالراية الهائلة.
لم تزل السيوف تتقصد المعصمين حتى تقطعت الكفين، عزَ عليه سقوط الراية التي حملت تاريخًا مفعمًا بالبطولات فأراد حملها بالمرفق فخارت قواه وسقط العلم مخضبًا بلون الدم الطهور إلى جانب الكفين اللذين تركهما خلفه، لكنه ما يزال يتشبث بالقربة، ففيها ماء العطاشى من الصغار، كيف يلاقون الجد وقد جف ريقهم، أي عهد إذن صانه؟
كانت تلك القربة هي ما يبقيه يناضل من أجل الحياة، ليتني أصلُ اليهم، لم يبق من المسير إلا أقله وعندها سأنهي آخر مهماتي، هكذا كان يحدث نفسه.
وبينما عيناه على القربة ممسكًا بتلابيبها ببقايا اليدين خوفَ السقوط جاء السهمُ يخترقها، وتبدد الماء من الثقوب، أراد أن يزم الماء من على التراب كمن يتشبث بحلم مستحيل.
حاول أن يجمعه بكفيه كما اعتاد فرأى مكان الجرح نورًا سرمديًا انداحت له الدنيا بالتكبير واستقبلته السماء بالتهاليل.
وصلَ الخيامَ مضرجًا قطيعًا نازفًا فنام في حجرِ السيد الذي راح يمسح الدماء والتراب عن وجهه الوضيء فما زال إلى الآن قمر الهواشم.
أراد أن يغمض عينيه فقد تعبا وآن لهما أن تستريحا وابتسم فرحًا بالفوز، ما بال الدنيا إذن تدق الطبول إيذانًا بالرحيل؟
وقبل أن يغادرهم في رحلته الأبدية نظر السّقاء إلى القربة الخالية، وإلى وجوه الصغار يسألهم الصفح عنه، ليتهم يصفحون؟