د. عبد الحسين شعبان يكتب: لمناسبة الذكرى الأربعين لرحيل شمران الياسري..البارومتر الساخر والمحرّض
ظل ماركس ينتظر أن يكتب انجلز تدقيقاته وتعليقاته ونقده على مخطوطة كان قد بعثها إليه، ولكن دون جدوى، وكتب له أكثر من مرّة ولكنه لم يتلقّ ردّاً إلاّ بعد فترة طويلة، حيث استلم مخطوطة موازية لمخطوطته ومعها ورقة من ثلاثة أسطر جاء فيها: أعتذر فلم يكن لدي الوقت لكتابة ملاحظات مكثّفة، فكتبت هذه المخطوطة تعليقاً على مخطوطتك. انجلز.
فقد كان إنجلز يعني أن التكثيف أصعب بكثير من كتابة نصٍ مطوّل، لأن عليه أن يلمّ إلماماً كبيراً بالموضوع، بل يتشرّب روحه، أي جوهره، بمعنى لبّه.
تذكرت ذلك حين هاتفني الصديق الشاعر فالح حسّون الدراجي طالباً نصّاً مني عن أبو كاطع الذي كنت قد نوّهت إلى مسألة الإحتفال بذكرى رحيله الأربعين منذ حين. وهنا استجيب لطلب الدراجي ولكن بنصٍ طويل مستعيناً بفقرات مجتزأة من كتابي “أبو كاطع على ضفاف السخرية الحزينة” الصادر في لندن العام 1997 والمُعاد طبعه في بيروت العام 2017 (مزيّداً ومنقّحاً، حيث تم الإحتفاء به في نادي العلوية على نحو مهيب وبما يليق بمكانة أبو كاطع).
وكم تخيّلته وأنا على المنصّة في نادي العلوية، وهو يتسلّل إلينا متنكّراً ليهمس بأذني أحم.. أحم.. نادي العلوية مو بس إلكم، أصبح لنا حصّة أحسبه حصّة السادة أغاتي مثل نذر عياده لولاده… تذكرت ذلك المشهد الدرامي وأنا أستعيد ذلك اليوم التاريخي يوم عاد إلينا سالماً فلم يخبرني عن موعد مجيئه ولكنه كان يعرف موعد دفاعي عن أطروحتي للدكتوراه، فذهب مباشرة من المطار إلى منزلي وترك حاجياته الشخصية ومنها توجّه إلى كليّة الحقوق بانتظار أن يكون أول المهنئين لي بعد خروجي من القاعة. ولا أنسى منظره وهو يتكأ على الحائط بابتسامة عريضة وبيده غليونه ثم يفتح يديه ليحتضنني ويقبّلني وكان أول من ناداني بالدكتور. وقد كتب عن ذلك وعن أطروحتي في صحيفة طريق الشعب في حينها.
أقرب إلى مدخل
يوم وصلتُ دمشق في تموز/ يوليو 1980 كنت أول شيء أفكّر فيه هو الإتصال بالعزيز شمران الياسري “أبو جبران” (نجله الأكبر) أو حسب التسمية الأدبية والفنية التي اشتهر بها “أبو كاطع”، خصوصاً في برنامجه الإذاعي “أحجيها بصراحة يا بو كاطع” أو حسب تدليعاتنا له فنناديه بـ “السيد” أحياناً، ولأنني تركت منزلي له قبل ثلاث سنوات ونيّف في براغ، بكل ما فيه حين عدت إلى العراق، فقد حاولتُ الإتصال برقم هاتفي القديم الذي بقيت أحفظه وإلى الآن ” 120 520 “، ولكن لم يردّ عليّ أحد، ثم في مرّة ثانية أجابتني السيدة كلودوفا صاحبة المنزل بأن السيد النوفينارج (السيد الصحفي) كما كانت تناديه قد ترك المنزل.
وبعدها قال لي الصديق فاضل الربيعي الذي كان قد وصل من عدن إلى الشام أن لديه عنوان أبو كاطع، ويمكننا إرسال برقية له بالبريد، وحين أعطاني العنوان وقارنته بعنواني القديم عرفت أنه انتقل إلى منزل آخر بعد عمله في مجلة فلسطين الثورة بدعوة من السفير الفلسطيني عاطف أبو بكر أحد أصدقائنا الأعزّاء. وكتب فاضل البرقية بنفسه أن صديقنا العزيز “شعبان” وصل سالماً كما ترك له رقم تلفون مؤقت لأحد أصدقائي أعطيته له ليدونه في البرقية.
بعد ثلاثة أيام رنّ الهاتف، وإذا به يسأل عني وبعد أن أخذتُ السمّاعة، فقال لي: الكليط يتكلّم والهودار معي ونحن بانتظارك، وكان يقصد بالهودار موسى أسد الكريم، ثم دخل بالتفاصيل .. التأجيل ما بي صالح.. اليوم أفضل من بكرة.. توجّه إلى طرفنا بأسرع وقت ممكن ومكانك موجود ومحفوظ في القلب والعين. ثم تبادلنا الكلام والسلام معه ومع موسى أسد الكريم “أبو عمران” واتفقنا على اللقاء، لكن الأمور سارت بما لا تشتهي سفننا.
وحالت ارتباطاتي الجديدة دون السفر سريعاً، خصوصاً في إطار عملٍ يومي والتزامات وكتابات كنت قد أخذت على عاتقي إنجازها. ويوم صدر كتابي “النزاع العراقي – الإيراني” وهو أول كتاب يصدر عن الحرب العراقية – الإيرانية من منظور غير حكومي، الأمر الذي أثار إشكالات غير قليلة بالنسبة لي، وحين هاتفته وكان قد قرأ الكتاب، قال “الله يستر” وبعد حين قال وصلتني الطراطيش، خصوصاً ما صاحب ذلك من اعتقال العائلة وترويعها وتعريضها لتهديدات لا حدود لها استمرت لأكثر من 20 عاماً.
اللقاء الموعود
اتفقنا على اللقاء في نهاية آب/أغسطس 1981، أي نهاية الصيف تقريباً، حيث قرّرتُ السفر وبتشجيع منه، فإذا بنفسه يأتيني ولكنّه محمّل على ظهر طائرة وفي تابوت وملفوفٌ بالعلم الفلسطيني والعراقي. لقد كان خبر نعيه الذي وصلني عن طريق الرفيق ثابت حبيب العاني مؤلماً فقد شعرت بغصّة في حلقي وكم بقيت ألوم نفسي لأنني تأخرتُ بالسفر لملاقاته؟ وكم كان لديه ولديّ من الحكايات لكي نتبادلها لكنها ظلّت حبيسة في صدورنا، فلم يبح بها لأحد حسبما قال لي في آخر مكالمة، كما أنني لم أبح بها لأحد بعد رحيله؟ نُقل جثمانه إلى بيروت ووريّ الثرى في مقبرة الشهداء، وكانت آخر زيارة لقبره مع الشاعر والفنان الصديق عمران القيسي قبل عامين، أي قبل مداهمة فايروس كورونا “كوفيد- 19” لنا.
الذئب اللئيم
حتى في ظروف بيروت الحزينة وأوضاعها المأساوية أستجير بأبو كاطع نفسه، وكم ردّدت مع نفسي ما كان يرويه عن “حاتم السلطان” “موتك بطر يا حاتم السلطان” أما كان له أن يتأخّر قليلاً؟ أما كان له أن ينتظرني بعد فراق دام أكثر من أربع سنوات؟ أليس ذلك من حقوق الصداقة أم أن الذئب اللئيم الذي يتربّصه فيزوغ عنه تارةً ويراوغه تارةً أخرى ويستمهله مرات ومرات، استعجله هذه المرّة بطريقة غادرةٍ فتربّص له وهو على قارعة الطريقٍ بين براغ وبودابست ذاهباً لزيارة نجله الأكبر جبران، فاصطاده بشراسةٍ، لكن روحه المضيئة صعدت إلى السماء وهي مطمئنّة وراضية مرضية .
وعي وإدراك
لقد أتقن “أبوگاطع” حرفته وأدرك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب،مبتكراً طرقاً مباشرة وغير مباشرة للنقد والتّحريض والتّفكير، والهدف هو الوصول إلى القارئ، سواء بتفخيخ حكاياته وأقصوصاته وجُمله أو استدراجه لدائرة الإيهام،وفي كلّ الأحوال دفعه للتّساؤل والشك،لما تستثيره نصوصه، فتارةً يستفزّ المتلقّي من البداية وأخرى يرخي له المقدّمة ليوحي له بنهاية مستريحة، لكنّه سرعان ما يفاجئه قبل الخاتمة بالعودة لدائرة السؤال،تلك هي حبكته الدرامية المتميّزة.
وكان “أبوگاطع” قد تمكّن من أدواته وامتلك فنّ مخاطبة قلوب وعقول الناس، بلغة بسيطة وعميقة في آن، أقرب إلى “السّهل الممتنع”، عبّر عنها بثقة عالية وبأسلوب بارع خصوصاً حين تتعاشق مفرداته العامية مع الفصيحة في تناسق باهر وتلقائي ، مزاوجاً بين الحزن والفكاهة على نحو متماسك وغير قابل للفصل.
المثقّف والأسئلة
وعلى الرّغم من كونه مثقّفاً أعزل وفرداً “نفر” -على حد تعبيره- وبإمكانات محدودة وشحيحة، إلاّ أنّ أسئلته المشاغبة كانت تتميّز بإثارة شكوك وارتيابات تفوق تأثيراتها ما تفعله هيئات أو مؤسسات أحياناً، في ظلّ أساليب الدّعاية والحرب النفسية والقوّة الناعمة والصراع الأيديولوجي الذي كان سائداً على نحو حاد في زمانه.
ودليلي على ذلك أنّه اضطرّ لطباعة روايته “الرّباعية”على نفقته الخاصة، بعد أن امتنعت الجهات الرسمية من طبعها، بزعم عدم استيفائها الشروط الفنية، لكنه باع عشرات، وربما مئات النسخ، حتى قبل صدورها لدفع ثمنها إلى المطبعة، وقد حجز العديد من الأصدقاء نسخهم قبل أن تطبع، ولا أعتقد أنّ كاتباً استطاع أن يفعل ذلك قبله أو بعده. إنّها طريقة “أبوگاطعية” بامتياز، له براءة اختراعها.
كان تأثير ما يكتب كبيراً على السلطة ومعارضتها، بل حتى داخل الحزب الشيوعي نفسه، حيث يجري صراع “مكتوم” بين قيادة “مسترخية” وقاعدة “مستعصية”، فقد كان أقرب إلى “بارومتر” يقيس فيه الناس درجة حرارة الجو السياسي. وقد نجح في توظيف علوم عديدة لاختيار الوسيلة الأنجع واختبارها، وذلك من خلال علم النفس وعلم الاجتماع وأساليب التغلغل الناعم والحكاية الشعبية ليصل إلى مراده، متحدّياً الجميع أحياناً، بمن فيهم نفسه، حتى وإن اقتضى الأمر المغامرة، باحثاً في كل ذلك عن المغايرة والتميّز والجديد والحقيقة البيضاء.
جمهور وقيم
لهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً، ناهيك عن القيم الجمالية التي حاول إظهارها، كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع، خالقاً أبطالاً هدفهم إسعادنا، على الرغم مما كان يعانيه من ألم، وكما قال غائب طعمة فرمان عنه: إنّه إنسان ثابت في أرضه، يعرف كل شبر منها، عاليها وسافلها، حلوها ومرّها، مذاق ثمارها وملوحة عرق الكدح فيها، يتغنّى بشفافية روح، بشجاعة قلب، وحكمة نظرية ومكتسبة بما يمثل الهيكل الإنساني لحياة ابن الريف.
ويمضي فرمان للقول: لقد وظّف شمران نباهته ورهافة حسّه ولذاعة سخريّته ووضع كل ذلك في يد صديقه وأخيه الفلاح، ليلتمس مواطن الضعف والمأساوية في حياته، ويجعل من حياته البسيطة الساذجة في أحيان كثيرة قصصاً يمكن أن ترى وتجلب التعاطف، وتسجل تاريخاً لم يجرِ المؤرخون على تسجيله.
ضوء لا بدّ منه
لا زلت أعتقد أن أدب “أبوگاطع” لم يُدرس بعد ولم يُسلّط الضوء عليه بما فيه الكفاية، لا سيّما تفكيك “حسجته” (كيمياء لهجته المحكيّة) وقراءة ما وراء سطوره الملغّمة وتورياته حمّالة الأوجه، فضلاً عن سخريته المريرة واللاّذعة، ناهيك عن النكهة الشعبية النافذة التي امتاز بها، وطبعت جلّ أعماله الصحافية والروائية على مدى يزيد عن عقدين من الزمان.
والقراءة لا ينبغي أن تكون من باب التمجيد والمجاملة، بقدر ما تكون قراءة نقدية منهجية وموضوعية، بما له وما عليه، فضلاً عن إمكانية إفادة القارىء من الأجيال الحالية والقادمة، بالأجواء السياسية والفكرية والثقافية التي كانت سائدة في عهده والتحدّيات والكوابح التي اعترضت طريقه، ودوره المتميّز على الرغم من ظروفه الحياتية والمعيشية الصعبة، فلم يتمكن من إكماله دراسته، وهو ما يطرح أسئلة على الجيل الحالي والأجيال المستقبلية: ترى من أين جاءت موهبته؟ وكيف تمكّن من صقلها؟ ثم كيف استطاع إنماء ملكاته وتطوير قدراته؟ بحيث احتلّ هذه المكانة الاستثنائية ملتحقاً بجيل الروّاد الذين سبقوه، ومنتقلاً من عالم الصحافة السريع والكثير الحركة إلى فضاء الرواية الذي يحتاج إلى التأمّل والدّقة.
ثم ألا ينبغي دراسة نصوصه التعبوية والتحريضية في إطار فصل الصراع ووسائل الدعاية المؤثّرة التي كان يستخدمها، والنقد الذي امتشق سلاحه بمهارة ودقة كبيرين، خصوصاً حين يعطّر كل ذلك بمسحة من السخرية والدعابة وخفّة الظل؟
تشاليز ديكنز العراقي
لقد عرف العراق لوناً جديداً من ألوان الأدب الساخر مع “أبوگاطع”، الذي برز فيه بنتاجه المتنوّع، سواء حديثه الإذاعي الموجّه إلى الفلاحين أو أقصوصاته وحكاياته، حين نقل حديث المجالس والمضايف والديوانيّات، ليجعله مادة للكتابة الصحافية، التي اتّسمت بها مقالاته، بحيث أثّرت فيها شخصيات الريف النائي والمعزول، بيوميات المدينة وأحاديثها وهمومها والجديد فيها، وانتهاء برواياته وخاصة رباعيته أو رواية “الحمزة الخلف”.
لا أدري إلى أيّ حدٍّ – ونحن نستعيد “أبوگاطع” – يمكن أن نستذكر الروائي الإنكليزي تشارلز ديكنز صاحب رواية: “قصة مدينتين A Tale Of Two Cities”، فقد امتاز أسلوبه هو الآخر بالدعابة البارعة والسخرية اللاّذعة وصوّر جانباً مهمّاً من حياة الفقراء وحظي بشعبية لم ينلها مجايلوه.
وإذا كانت السّخرية تميّز أسلوب “أبوگاطع”، فثمّة أحزان كانت تغلّفها على نحو عميق. ربّما وجد “أبوگاطع” فيها بعض التخفيف عن قسوة حياتنا ومراراتها وإخفاقاتنا المتكرّرة، فلجأ إلى إضفاء مسحة من التندّر والضحك عليها، حتّى وإنْ كان ضحك أقرب إلى البكاء، كما هي حالنا وأوضاعنا. لقد أمطرتنا حكاياته وأقصوصاته بعناقيد لذيذة من السخرية الحزينة، لفتح شهيّتنا للنقد من أجل حياة أكثر يُسراً وأكبر قدرة على الاحتمال والمواءمة.
وكما يقول المتنبي:
وَماذا بمِصْرَ مِنَ المُضْحِكاتِ وَلَكِـنّهُ ضَحِـكٌ كــالبُـكَاء
وكان الشاعر نزار قباني في إحدى زياراته للعراق، قد قال:
مرحباً يا عراق، جئت أغنيك وبعض من الغــناء بكاء
السخرية والحزن
لأنّه كان يدرك أن الحزن معتّق في العراق، وهو أصيل ومتجذّر، ويكاد يطبع كل شيء، فحتى فرح العراقيين وغنائهم ومناسبتهم المختلفة، كلها مغلفة بالحزن الجميل، ولذلك كانت سخرية “أبوگاطع” تداف بالحزن اللذيذ.
إنّ سخرية مثل سخرية “أبوگاطع”، وهو يتناول أعقد القضايا وأخطرها، لا بدّ أن تكون سخرية جادة ومسؤولة، بل هي موقف من الحياة والكون والتطوّر، وقد حاول شمران الياسري أن يواجه تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشاكله وهمومه بنوع من السخرية، لأنّ هذه الأخيرة في نهاية المطاف تعبّر عن موقف مقابل لكل تلك الإشكاليات، وهو ما دعا كارل ماركس للقول: “إني أقف ممّا هو مضحك موقفاً جادّاً”.
لقد كتب “أبوگاطع” تاريخ الريف العراقي، كجزء من تاريخ الدولة العراقية والمجتمع العراقي، فعالج ذلك بسخرية ودعابة وتهكّم، لدرجة أنّ روائي المدينة غائب طعمة فرمان يقول عن شخصياته “لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعت بحّة صوتها في أذني، كنت أمام ما نسمّيه موسوعة الريف، ولكنّ كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً”.
كاميرا بانورامية
لقد حاول “أبوگاطع” الكشف عن حياة مطوية تقريباً، فقام بتصوير الواقع بكاميرا بانورامية، ملتقطاً صوراً تكاد تكون فاضحة عن حقيقة حياة الريف، لا سيّما وهو يدخل إلى أعمق أعماقه، لأنّه ليس طارئاً عليه أو غريباً عنه، بل هو من صلبه ومن مكوّناته، فقد كان يعرف تمام المعرفة البيئة التي يتحدّث عنها بجميع تفاصيلها وتعقيداتها وتناقضاتها، وهو لا يأتيها زائراً أو مشاهداً، بل راصداً لها وفاعلاً فيها، لذلك جاءت صوره حسيّة تلامس حياة الريف بكل إيجابياته وسلبياته.
وصدق الروائي الروسي مكسيم غوركي حين قال: “التاريخ لا يكتبه المؤرخون، بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان”، فقد كان “أبوگاطع – أبو جبران” هو مؤرّخ الريف، حيث عكست رباعيته حياة الفلاّحين والشيوخ والإقطاع والسراكيل والنساء والعشق والحب المحّرم والظلم والقسوة، والعادات والتقاليد الاجتماعية وزيف بعض رجال الدين وخداعهم. ولولا “أبوگاطع”، لضاع هذا الجزء المهم من تاريخ الدولة العراقية، وللدقة لضاعت إحدى الرؤى لها، والتي يمكن مع رؤى أخرى تكوين صورة شاملة ومتعدّدة الألوان للريف العراقي.
لقد عرّفتنا سخرية “أبوگاطع” مشاكل الفلاحين وبخاصة فلاحي الجنوب، وبالقدر نفسه عرفنا حجم الألم والمرارة من خلال المواجهة لواقعه، ومرّة أخرى وذلك عبر جوانب حيّة من حياة المجتمع وشخصياته حيث تمكّن “أبوگاطع” من ربط ذلك بهارموني دقيق التناسق، لاسيّما بمنظومة الريف، وفقاً لمعايير جمالية وصوراً واقعية، مكتوبة بحسّ درامي يعكس الواقع بكل ما عليه وما له.
الشخص الثالث
حاول “أبوگاطع” استخدام ما اصطلح عليه الشخص الثالث أو “القصّخون” في المقاهي البغدادية أيام زمان أو ما يسمّى بالصوت الآخر أو “الفلتون” حسب استخدام سميرة الزبيدي، وكان صوته الآخر هو الذي يعبّر عمّا يريد أحياناً، لكنه يجعل ذلك بمسؤوليته المحدّث، ومحدثه هو “خلف الدوّاح” مبدعه الباطني ومحاوره ومنولوجه وملهمه، إنه شخصية أوهم “أبوگاطع” قارئه بأنها وهمية وغير موجودة، لكنه في واقع الأمر كان شخصية واقعية، موجودة، دماً ولحماً كما يقال، إنه كَعود الفرحان الذي نشرنا صورته لأول مرّة في كتابنا “على ضفاف السخرية الحزينة”، ولعلّ بساطته كفلاح تصلح مدخلاً لتوظيفه من جانب “بوگاطع”، ناسباً إليها الحكمة والمعرفة والخزين الاجتماعي للحكايات والأمثال والأشعار والتجارب، فضلاً عن سرعة البديهة وطلاوة اللسان.
خلف الدوّاح “كعود “
لقد رافق “أبوگاطع” في حياته الإبداعية شيئان لا يستطيع الاستغناء أو التفريط بأحدهما: الأول – صحبته مع خلف الدواح وهي المرحلة الثانية، حيث كان اسم كعود قد شغل المرحلة الفنيّة الأولى، وكعود أو خلف الدوّاح هو رفيق الحرف وصديق الكلمة والثاني السخرية، فقد كان الضحك ملازماً له حتى وإن كان يتفجّر حزناً، لأن ذلك واحد من رهاناته ضد أعدائه التقليدين وضد خصومه البيروقراطيين، وعبر خلف الدوّاح والسخرية كان يجد التعبير المتميز عن القرية وحياة الريف العراقي دون اسقاطات أو رغبات في الكتابة عن قوم يحاول التعاطف معهم لأنهم يتعرّضون للظلم، وهي الصورة التي دائماً ما تتكرر عندما يكتب أحد المبدعين عن الريف، ولكن في حالة “أبوگاطع” إنه كتب من داخل الريف بكل تفاصيله وحيثياته بسلبياته وإيجابياته، بنقاط ضعفه ومصادر قوته، بقبحه وجماله، ولم يكتب عن الريف من خارجه، كما كان يكتب بعض أدباء المدينة، مثلما هي رؤية الأديب ذو نون أيوب ” الأرض والسيد والماء” التي سبقت الرباعية بعقدين ونيّف من الزمان، ففي حين كان الأول أصيلاً في التعبير عن مشاعر الريف والفلاحين، كان الثاني دخيلاً لأنه من خارج البيئة الاجتماعية الحسّية المنظورة وذلك ما رصده الناقد مصطفى عبود.
السخرية والأقصوصة
إنك والحالة هذه لا يمكن أن تفصل بين “أبوگاطع” وبين السخرية، ففن وأدب وعمود “أبوگاطع” الصحافي الذي انتشر شفيفاً خفيفاً كان لصيقاً بالسخرية اللاذعة الحزينة التي لم يعرفها الأدب العراقي عموماً، لكنها مع “أبوگاطع” اكتسبت شكلاً جديداً أكثر عمقاً وشمولاً وخفّة دم كما يقال. وبقدر سخرية “أبوگاطع” ، كانت الرواية شكلاً جديداً للتعبير، مثلما ظلّت الأقصوصات والحكايات مادة طازجة يحتويها عموده الصحفي وبقدر المتعة والضحك، فإنها في الوقت نفسه، تعكس جدّية عالية ووقاراً هائلاً، حتى وإن كنّا نضحك من الأعماق.
المعكّل بالمرقص
حدثني في إحدى الليالي الخريفية عام 1976 وكان قد فرض على نفسه إقامة جبرية بسبب إلتباسات الوضع السياسي والحزبي، قائلاً إنه ضمن المشهد السائد يشعر مثل “المعكَّل بالمرقص (أي من يلبس العقال والكوفية- اليشماغ) وهو يراقص فتاة، وأردف قائلاً نعم أنه معكَّل بمرقص السياسة. وكان يسمّي علاقات تلك الأيام “ عرس واوية” أي ” زواج ثعالب” نظراً لتردّي العلاقة بين الأطراف السياسية، لاسيّما الحكومة وحلفائها.
كان “أبوگاطع” يثير الكثير من الأسئلة، وقد تبدو للسامع أو للقارئ، إنها أسئلة سهلة، لكنها من السهل الممتنع، فالأسئلة السهلة هي أكبر الأسئلة وأخطرها: مثل الحرية والإيمان والإلتزام والتضحية والعنف والسلام والوفاء والتعايش وغيرها، أما لغته فكانت سلسة وقوية يطرّز فصحاه الخصبة بالعامية الجميلة، وبشيء من المرونة، فيحاور الدولة على لسان خلف الدواح وينتقد الأوضاع السياسية ويناقش الحركات والأفكار ويتمنطق بمصطلحات آيديولوجية وبحبكة درامية، كلّ ذلك مغلّف بالسخرية، لينتقل من حديث المجالس والشفاهة، إلى الكتابة، ومن الريف إلى المدينة، ومن هموم الفلاح، إلى مشاغل المثقف.
وإذا كان غائب طعمه فرمان، روائي المدينة، ولاسيّما بغداد بحواريها وأزقتها، بنسائها ورجالها، بجوامعها وكنائسها وحاناتها وملاهيها وتطلعاتها نحو الحداثة والحرية، فإن “أبوگاطع” كان بحق روائي الريف بفلاحيه وإقطاعيه، بعاداته وتقاليده، بأنهاره وجداوله، بحياته البائسة وتطلعه نحو التمدّن والعصرنة والعدالة.
الحرية والتنوير
كان عمود “أبوگاطع” الصحافي خطاً من خطوط المواجهة السياسية الساخنة، بقدر ما هو شفيف خفيف وأنيس، يقرأه من كان من محبي “أبوگاطع” وأدبه، لكي يتمتعوا بحكاياته وإقصوصاته وطرائفه ومفارقاته، مثلما يقيسون به درجة حرارة الجو السياسي والحراك الاجتماعي، وكان خصومه في السلطة وخارجها يقرأونه أيضاً، ليعرفوا مواطن الخلل في السلطة ذاتها، ولديهم أيضاً، وكان العمود بمثابة البارومتر الزئبقي الدقيق، فكلّما ارتفعت لغة “أبوگاطع” حرارة، سجّل البارومتر سخونة الوضع السياسي والعكس صحيح، وكان موقع عمود في الصفحة الأخيرة من جريدة “طريق الشعب”، حيث يتربع ” بصراحة” وهكذا كان القراء يبدأون بقراءة الجريدة بالمقلوب، أي من الصفحة الأخيرة، وعندما نقل العمود إلى الصفحات الداخلية، كتب “أبوگاطع” “نزّلوك لو صعوّدك؟” أي لماذا تم نقل العمود، مع غمز ولمز!!؟.
كان عمود “أبوگاطع” يعطي جرعات متواصلة من السخرية المشوبة بالحزن تلك التي يخشاها الحكّام والمستبدون والبيروقراطيون من كل صنف ولون وفي كل زمان ومكان، وكانت شخصيته المملحة ” خلف الدوّاح” ما يوازي شخصية حنظلة في ريشة الفنان ناجي العلي، فالقلم والريشة والشخصيتان الأثيرتان مثّلتا ذلك السحر الآخاذ الذي يثير في النفس خيالات خصبة جديرة بكل من يتوق إلى الحرية والتنوير.
عمود “أبوگاطع” الصحافي مثل كاريكاتير ناجي العلي، يمسّ الروح ويتألق مع العقل وينساب إلى الوعي عميقاً ولاذعاً، وعندما نقول خلف الدوّاح فأنت تقصد “أبوگاطع”، مثلما تعني ناجي العلي عندما نقول حنظلة، وفي كلا الحالين تعني: مقاومة الظلم والاستبداد والانحياز إلى الإنسان وحقوقه… ولا يمكن تصوّر حنظلة بدون فلسطين، مثلما لا يمكن الحديث عن خلف الدوّاح دون الحديث عن الريف العراقي، والعراق ككل.
وجوه ومؤخّرات
هي السخرية في الحالين إذاً: وجوه ومؤخرات، زهورٌ وتوابيت، طيورٌ وبنادق، مظلومون وظالمون، هي السخرية حين ينتصب أمامك الواقع العربي بكل تناقضاته وبؤسه وتشويهاته، مثلما تصوره ريشة ناجي العلي يعكسه قلم “بوگاطع”: السخرية المشتركة والهوّية المشتركة والأمل المشترك للمثقفين والمظلومين والمنفيين، وإن اختلفت الألوان والأشكال والاجتهادات.
لم يعرف العراق أدباً وكتابة ساخرة الاّ على نحو محدود، فمنذ العشرينيات وحتى الخمسينيات كانت هناك محاولات جنينية بدأت على يد نوري ثابت صاحب جريدة “حبزبوز”، ثم بدأت مع عبد الجبار وهبي وعموده ” كلمة اليوم” في العام 1959 في صحيفة اتحاد الشعب الشيوعية، وكان شاكر مصطفى سليم قد نشر مسلسلاً ساخراً في “صحيفة الحرية” القومية التوجّه العام 1960 بعنوان ” يوميات قومي متآمر”، وتشكّل كتابات أبو سعيد ” عبد الجبار وهبي” وشاكر مصطفى سليم، ثنائياً لمن يريد التعرّف على تلك الفترة المضطربة والحساسة من تاريخ العراق، خصوصاً امتزاج النقد الاجتماعي بالسخرية السياسية.
ويمكن الإشارة إلى الكتابة الصحفية الفكاهية، فضلاً عن الرسوم الكاريكاتورية في الخمسينيات، كما عكستها كتابات خالد الدرة في مجلة ” الوادي” وصادق الأزدي في مجلة “قرندل”، وذلك ارتباطاً بحياة المدينة، ولاسيّما بغداد في جانبها الاجتماعي والسياسي، كما كانت هناك كتابات عكست شيئاً من السخرية في فترة الستينيات مثلما كان يعبّر عنها جليل العطية في جريدة “النصر” وغيرها، لكن السخرية الحزينة استحوذت على “بوگاطع”، واختتم هذه المقالة بمشهد كوموتراجيدي، خصوصاً وأنه في رواية ” قضية حمزة الخلف” بدا أقل تأثراً بالآيديولوجيا، مما هو في الرباعية، التي حملت إيمانية شديدة وتقريرية روتينية وتبشيرية منحازة، لكن هذا التمثّل خفّ في بنيته السردية في قضية حمزة الخلف.
شرّ البليّة ما يُضحك
ففي خضم المأساة يجعلنا “أبوگاطع” نردّد ” شرّ البلية ما يضحك”، خصوصاً عندما يقدّم صوراً، متناقضة كومتراجيدية، فعندها يهجم “الحرس القومي” على القرية، حيث يتم تطويق البيت الذي يختفي فيه مطشر اليساري المطلوب من الحكومة، وإذ به يفاجئنا حين يُخرجه عارياً، حيث كان عند عشيقته “زينة!!
ففي تلك الليلة كان بزينة رغبة للتعرّف على مذاق أصناف أخرى من الحب، شفتاها تنتزعان منه الوعي. كل الأشياء صارت في ذهنه ضلالاً باهتة. نسي أباه ونسي نوبة الحراسة (المكلّف بها)، لم يعد حقيقياً في الوجود إلاّ زينة وملمس جسدها، وعرف البخور النفّاذ وطعم شفتيها…
لكن “أبوگاطع” مع استغراقه في هذا المشهد الرومانسي وحبكته الدرامية يصوّر لنا الوجه الآخر للدراما القائمة، فإذا بمسؤول مفرزة الحرس القومي يهتف فجأة: تقدّم، فيرتج بيت داود، حيث كان مطشر عند عشيقته، ولكي يحكم حبكته ويصل المشهد إلى ذروته، يُحدث المصادفة، فأفراد الحرس القومي جاءوا يقصدون بيت “عودة الكبر” الذي يقال أنه من الشيوعيين، بينما هم يهاجمون بيت داوود صاحبهم والمخبر لديهم عن طريق الخطأ، وهكذا تنكشف حكاية مطشر وزينة عن دون سابق ترصّد وإصرار، لكن اندلاع الرصاص وتعالي صوته، أدّى إلى خروج مطشر عارياً، واستطاع الهرب ووصل إلى بيته فرآه والده عارياً، وهذه مفاجأة أخرى في خضم المأساة الساخرة أو السخرية الحزينة لدى “أبوگاطع” بصورتها الكومتراجيدية.
ومنذ أواخر الخمسينات، تمكّن ذلك الريفي المصحوب بالشكّ والمتعطش إلى العدالة والغارق في وهم الآيديولوجيا، أن يخوض في معترك الحياة بشجاعة: كدحاً وصحافة وثقافة وأدباً، حتي غدا اسماً يُشار له بالبنان.
لم يكن “أبوگاطع” متفرجاً على ما يجري في الريف وحياة القرية، في اطار مشهد خارجي وتعاطف انساني، بل كان من الريف وكتب عنه، مقدماً البيئة الريفية بقدرٍ من التشويق والتوتر والانفعال، عاكساً حياة الفلاحين والريف العراقي، كمقطع من الدولة العراقية، التي أرّخ لها في رباعيته من العام 1923 وحتى العام 1963 وفي روايته “قضية حمزة الخلف” في مرحلة ما بعد انقلاب 8 شباط 1963.
الريف ومفهوم البطولة
يمكنني القول إن فصلاً مهماً من تاريخ العراق السياسي، كان سيبقى غير مكتوبٍ، ولربّما مجهولاً بما في ذلك التراث الشعبي لولا موهبة “أبوگاطع” الذي امتلك أدوات تصويرية وقدرات تخيلية لالتقاط واقع الريف العراقي، برؤية شفافة، بحيث اختلط الواقع المعيش بالخيال المتصوّر في حبكة درامية، أكتمل بناؤها في حالات وظلّ غير مكتمل في حالات أخرى. وبهذا المعني يصح قول مكسيم غوركي “التاريخ لا يكتبه المؤرخون بل الفنانون، الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان”.
لقد تطور مفهوم البطولة في روايات وحكايات “أبوگاطع”، ففي قضية حمزة الخلف خفّ أو ضعف فيها تأثير الايديولوجيا قياساً بالرباعية، رغم انه ظلّ يلقي بظلاله الثقيلة عليها، لكنها لم تعدْ “كلية القدرة” أسطورية، خارقة، ينسب إليها كل الصفات الحميدة، بل تتمثّل في الشخصية الإنسانية البسيطة، التي تحمل عناصر القوة والضعف، الشجاعة والخوف، الاقتحام والتردّد، الخير والشر، المجد والأخطاء على حد تعبير الجواهري في قصيدته المهداة إلى الزعيم العربي جمال عبد الناصر، وهي تذكّرنا بغريغوري بطل رواية شولوخوف “الدون الهادئ” المتذبذب، المقتحم، المتردّد، الضاج بالحركة والحب والفحولة، المتنقل بين القوزاق والجيش الأحمر والأبيض وبالعكس!
إن كتّاباً ساخرين إلى جانب “أبوگاطع” الذي كان الأكثر شهرة وابداعاً بينهم، بحاجة إلى دراسات وأبحاث جادة للدخول إلى عالمهم الداخلي الروحي وتقويم ونقد نتاجاتهم وسخريتهم أمثال: عبد الجبار وهبي (أبو سعيد) وعموده الشهير “كلمة اليوم” في صحيفة “اتحاد الشعب” بعد ثورة 14 تموز 1958، وشاكر مصطفى سليم، الذي كان يكتب في صحيفة “الحرية” مسلسلاً بعنوان “يوميات قومي متآمر” وقبلهما خالد الدرّة وكتاباته المتمّيزة في “مجلة الوادي” وصادق الأزدي في “مجلة قرندل”. وفي مرحلة الثلاثينات اشتهر الكاتب الساخر نوري ثابت ومجلته “حبزبوز”. واذا كانت السخرية فنّاً رفيعاً فهي تعبير عن موقف مسؤول من الحياة بكل ما تعنيه الكلمة. وكان كارل ماركس يردّد: إنني أقف مما هو مضحك موقفاً جاداً.
“أبوگاطع” رغم شعبيته الاّ انه كان رجلاً “مرفوضاً”، باستعارة توصيف المفكر جورج لوكاش، للبطل الملحمي حسب بعض الولاءات والمقاسات الحزبية الضيقة… لأنه كلّما كان يلامس تجربة كان يلغمها بالأسئلة… الأسئلة هي ذاتها التي ظلّت قائمة ومتلاحقة في مملكة جورج أورويل “مزرعة الحيوان” و”رواية 1984″ أو عند “أبوگاطع” في “مملكة الضبع الأكبر”.
نحن بحاجة إلى السخرية في مواجهة غلاظ القلوب…
نشرت في جريدة الحقيقة ” بغداد” 17/8/2021