الدكتور تحسين الشيخلي يكتب: مستقبل التعليم في عالم متغير
في خضم عالم يذهب بلا هوادة نحو سيناريوهات مستقبلية غير مؤكدة، تستند رهاناتها على واقع متخم بسلسلة من الأزمات، ابتداءً من الأزمات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والبيئية والتهديد الذي تشكله العولمة، وأخيرًا أزمة وباء كوفيد-19.
وحتى لا تتفاقم عواقب هذه الأزمات لابد من البحث عن آليات عمل مغايرة وأدوات تحفز الابتكار وتعيد الثقة في المستقبل، والحقيقة التي لا جدال فيها أن تحقيق ذلك مستحيل بدون التعليم الجيد، والذي يمكن اعتباره القاطرة التي تقود الحياة الإنسانية بقوة واقتدار.
وعند الحديث عن تعليم جيد فهذا ينقلنا إلى أهمية امتلاك مؤسسات تعليمية فاعلة، والأهم من ذلك، القدرة على إبقاء المتعلمين في هذه المؤسسات التعليمية وضمان إكمال نسبة عالية منهم سنوات الدراسة والتخرج.
تغير الدور الأساسي للتعليم من الاقتصار على نقل المعرفة إلى انتاجها وتوظيفها لخدمة المجتمع، وأصبح فاعل أساسي لتحريك الإنتاجية والنمو الاقتصادي من خلال الابتكار الذي يعتمد على البحث ورأس المال البشري، حيث يساهم التعليم بشكل كبير في تطوير كلاهما. كما يساهم أيضا في التماسك الاجتماعي من خلال مساهمته في التنمية الاجتماعية والثقافية والبيئية للمجتمعات.
مما لا شك فيه أن التعليم يوفر تقدما نحو اقتصاد أكثر كفاءة، وتحسينا في حياة الناس، ومساهمات في مجتمع أكثر استقرارا.
عليه لا بد من السؤال، هل يقوم قطاع التعليم حاليا بما يكفي لإعداد الطلاب للدخول إلى عالم جديد حيث تعمل الروبوتات والأتمتة وتحليلات البيانات الضخمة على تغيير طريقة عيشنا وعملنا؟
تؤكد العديد من الدراسات والأبحاث وأراء الخبراء، الذين يرون أن المدارس والجامعات الحالية غير مصممة لتوليد الإبداع والابتكار المطلوبين في القوى العاملة للقرن الحادي والعشرين والثورة الصناعية الرابعة.
ولتلبية متطلبات القوى العاملة المستقبلية، يجب أن يكون الطلبة مجهزين بمهارات القرن الحادي والعشرين التي من شأنها أن تساعدهم على الازدهار في مستقبل العمل.
في عالم اليوم، ولضمان نجاح الطلاب من المهم إقامة روابط أقوى بين مؤسسات التعليم العالي والصناعة، يجب إجراء تغييرات على نظرتنا للتعليم بعد الثانوي لإعداد الطلاب للثورة الصناعية الرابعة بشكل مناسب، (خلال الثورة الصناعية الرابعة، ستصبح المؤهلات الجامعية أقصر وأكثر تركيزا، وستوفر الكليات مزيدا من التعليم الذي يستمر إلى ما بعد التخرج ويراعي الحياة العملية للطلاب).
هذا بدوره سيؤثر على كيفية احتياج مستويات التعليم السابقة وتعديل الفصول التحضيرية للكلية. على سبيل المثال، من الضروري أن يتم وضع بذور هذا النوع من التعلم في المدارس من خلال إتاحة الفرصة للطلاب لتعلم موضوعات تتجاوز مناهجهم الأساسية وتنمية حبهم للتعلم.
أن الواقع الذي تفرضه تقانات الثورة الصناعية الرابعة ستؤدى إلى تغيير نمط التعليم وستطرح أسئلة عميقة حول الكيفية التي يجب أن تقدم بها المؤسسات التعليمية تعليمها. ستتطلب بعض هذه الأسئلة إجابات تقنية. سيشكل البعض الآخر تحديا فلسفيا، حيث ستقوم الجامعات بإعادة تعريف ما تمثله.
وهنا من المهم الأخذ في الاعتبار أن قادة المؤسسات الأكاديمية والوزارات ليسوا وحدهم الذين يحتاجون إلى التفكير في كيفية التكيف مع العالم الجديد الذي تبشر به الثورة الصناعية الرابعة. يجب على المعلمين والمدارس والمسؤولين الحكوميين وأولياء الأمور إعادة التفكير في التعليم وكيفية إعداد الجيل القادم الاستفادة من عدد كبير من الفرص والتغلب على التحديات التي يتيحها التغير التكنولوجي المتزايد باستمرار.
المستقبل بواقعه المتغير بتسارع يفرض علينا واقعا مختلفا، لم نتآلف معه، سوف يتحول التعليم من قائم على المكان إلى قائم على الخبرة، ومن المباني الفردية إلى الشبكات والمجتمعات.
يرى المشاركون في ورشة عمل نظمتها كلية الهندسة وعلوم الكمبيوتر بجامعة فيكتوريا في نيوزيلندا أنه (على مدار الثلاثين عاما القادمة، سوف تسبب التقنيات المتطورة تغييرات جوهرية، يتضمن ذلك التعلم الآلي والبيانات الضخمة والواقع الافتراضي والمختلط الذي يوفر تجارب تعليمية تفاعلية فريدة. كما سيوفر الذكاء الاصطناعي لجهاز الكمبيوتر القدرة على التعرف على الحالات العاطفية، سيفهم الكلام في سياقه، وسيكون قادراً على الإجابة على أسئلة الطلاب بشكل مناسب باستخدام عمليات البحث الذكية للإنترنت بالكامل.)
كان مصدر القلق الكبير للمشاركين في ورشة العمل هو الأشخاص الذين لديهم إيمان أعمى بأن التكنولوجيا تحل كل شيء. فعلى الرغم من وجود إثارة وتوقع حول إمكانات هذه التقنيات الجديدة في تثقيف الناس، إلا أن الخبراء المجتمعين لديهم إيمان راسخ بالطبيعة العلائقية للتعليم والرأي القائل بأن التكنولوجيا لا يمكن أن تحل محل العلاقات البشرية.
التكنولوجيا هي مجرد أداة والاعتماد عليها بشكل كبير قد يعني فشل الطلاب في تطوير القدرات المناسبة للتعامل مع العلاقات الشخصية.
يحتاج التعليم إلى القيام بأكثر من إنتاج خريج يمكنه الحصول على وظيفة. يجب أن يوفر التعليم أيضا للطلاب فرصًا وخيارات وصوتا عندما يتعلق الأمر بسلامة العمل والرضا الوظيفي والأمن والتطور والكرامة. يجب أن يعدهم للمشاركة في الاقتصاد والمجتمع الأوسع.
دور مؤسسات التعليم في عالم اليوم، هو دور حيوي ومعقد، وهناك مجموعة واسعة من التحديات والفرص آخذة في الظهور، مع العديد من الآثار السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولعل الأهم هو التحديات المرتبطة بتغير وجهات النظر في المعرفة نفسها، والتي تؤثر بقوة على دور المؤسسات الأكاديمية ومسؤوليتها في المجتمع.
تتمتع المؤسسات التعليمية بوضع جيد يمكنها من الربط بين المحلي والعالمي وهذا يتيح لها إمكانية الوصول والتأثير بشكل كبير على عملية التغيير في المجتمعات من خلال تطوير طرق جديدة للتعاون والمشاركة مع سكان هذه المجتمعات.
نحتاج إلى خلق فرص لأولئك الذين هم جزء من نظامنا التعليمي للعمل شخصيا ومباشرا مع المجتمع، وتبادل المعرفة، والاستماع إلى أفكارهم الإبداعية والعمل معا في مشاريع لها تطبيقات عملية داخل المجتمع.
إن الإعداد للتحدي الهائل في مستقبل التعليم يتطلب من مؤسسات التعليم والتعليم العالي على السواء أن تأخذ في الاعتبار أهمية وعي التحديات وتحويلها إلى فرص.