توفي البابا فرنسيس صباح اليوم التالي لعيد الفصح عن 88 عاماً، وكان تجسيداً لنموذج البابا الليبرالي الذي لطالما تمنَّى كثير من الكاثوليك رؤيته خلال عهد يوحنا بولس الثاني الطويل، وكذلك عهد بينيدكت السادس عشر الأقصر. إنه رجلٌ تشكّل وتكوّن منظوره من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني، وسعى نحو تحديث أكبر للكنيسة الكاثوليكية.
وقد نجح بالفعل في هذا الأمر، من ناحية واحدة على الأقل، فعلى مدار أجيال، عبَّر أنصار الحداثة عن استيائهم من النفوذ المفرط للبابوية، وعدّوها سلطة ملكية عفّى عليها الزمن في عصر ديمقراطي، خاصة أن عقيدة عصمة البابا فرضت حالة من الجمود على النقاشات الكاثوليكية، بينما كان العالم ينطلق نحو الأمام.
نظرياً، شاركهم البابا فرنسيس هذه المخاوف، إذ وعد بكنيسة أكثر تشاركية، وتتسم بترتيب أكثر أفقية، أما على الصعيد العملي، فنجد أن البابا فرنسيس استخدم سلطته بالطريقة نفسها التي استخدمها أسلافه، لفرض الانضباط وكبح الانحرافات، لكن هذه المرة كانت الأهداف المحافظين والمعارضين التقليديين، بدلاً من التقدميين وأنصار الحداثة.
وبمجرد خلقه هذا النوع الجديد من الصراع، الذي في إطاره وجد الكاثوليك، الذين اعتادوا أن يكونوا في صف الفاتيكان، أنفسهم فجأة على خلاف مع السلطة البابوية، شارك البابا فرنسيس في زعزعة قدسية منصبه، وتقويض أبرز دعائمه.
ويعود ذلك ببساطة إلى أن المحافظين، الذين أزعج قناعاتهم، كانوا آخر المؤمنين بالبابوية الإمبراطورية، حماة هالة العصمة. ومن خلال إثارة شكوكهم وعصيانهم، أطاح بالدعامة الأخيرة التي كانت تدعم بابوية قوية، وترك كرسي القديس بطرس في ذات الموقع الذي وصلت إليه أغلب مؤسسات القرن الحادي والعشرين: تتمتع بالسلطة، لكن تفتقر إلى المصداقية، وتعتمد على الكاريزما من دون شرعية حقيقية، وتُفهم أفعالها بوصفها تقديم مكافآت للأصدقاء وفرض عقوبات ضد الخصوم.
على وجه الخصوص، هناك حركتا تمرد تبرزان هذا التحول، أولاهما: المقاومة المستمرة لمحاولة البابا قمع قدّاس اللاتينية التقليدي، باسم وحدة الكنيسة وروح المجمع الفاتيكاني الثاني. بعد المجمع المنعقد أواخر الستينات، حين أعاد البابا بولس السادس تشكيل الليتورجيا، أو طقس القربان المقدس، بالكنيسة، كان يتمتع بما يكفي من الهيبة كي يُنهي سريعاً القدّاس الذي نشأ عليه كل كاثوليكي في العالم.
أما حين حاول البابا فرنسيس فرض قمع مماثل، عبر إلغاء الامتيازات التي منحها البابا بينيدكت، فلم يلتزم بذلك إلا أساقفته الأشد ولاءً، في حين تمثَّل الأثر الرئيسي في إثارة مقاومة وشكاوى جديدة، وزيادة الاهتمام الإعلامي بالقداس اللاتيني القديم، وتعزيز مكانة المعسكر التقليدي في صفوف الكاثوليك الشباب.
أما التمرد الثاني البارز فكان من الأساقفة، بعد محاولة الفاتيكان التمهيدية للسماح بنوع من البركات للأزواج من النوع نفسه. وكانت هذه آخر محاولات البابا فرنسيس الليبرالية الصريحة، في سعيه لاستخدام السلطة التقليدية لخدمة أهداف تقدمية. إلا أنها تحوَّلت إلى نموذج يكشف بجلاء حدود السلطة البابوية، إذ قوبلت برفض واضح من أساقفة أفريقيا، الكنيسة المحافظة في العالم النامي، الذين رفضوا تقدمية العالم المتقدم، ما أجبر روما على التراجع نحو غموض دفاعي.
وبما أنني كنتُ كثير الانتقاد لحكم البابا فرنسيس، فاسمحوا لي بأن أفسر هذه التحولات، فقد خُلقت البابوية القوية بفعل قوتين عظيمتين في القرن التاسع عشر: تقنيات السفر السريع والاتصال، التي سهّلت المركزية في اتخاذ القرار بروما، وخسارة الكنيسة لقوتها السياسية، ما جعل الحكومات العلمانية تتوقف عن التدخل في شؤونها الداخلية. وقد بدأت هذه المركزية تتفكك تدريجياً نتيجة تغيرات حديثة أخرى، من اختراع حبوب منع الحمل إلى صعود الإنترنت، وكان لما بعد المجمع الفاتيكاني الثاني وأزمة الاعتداءات الجنسية دور كبير في الإسراع من وتيرة ذلك.
ما فعله البابا فرنسيس، من خلال نقضه للتسويات العقائدية التي أقرّها البابوات السابقون، أنه أضاف وقوداً جديداً لهذا التفكك، ودفعنا بسرعة نحو مشهد ضعف مؤسسي، بل عجز، كان سيحدث على الأرجح حتى في ظل قيادة بابوات محافظين.
وبطبيعة الحال، فإن هذا الضعف يضر بإدارة الكنيسة الكاثوليكية، وقدرة الأساقفة على تقديم التوجيه الأخلاقي ومحاسبة القادة العلمانيين، وكذلك يُقوض إحساس الوحدة العقائدية التي يُفترض أن تميز الكنيسة الرومانية.
ومع ذلك، نجد أن ذلك الضعف، في المقابل، فتح آفاقاً جديدة أمام المسيحية والكاثوليكية، فعندما أنظر حولي إلى بوادر الاهتمام الديني المتجدد في العالم الغربي، والتحوّلات المحتملة، أجد أن ما يلفت الانتباه كيف أن معارك الثقافة الكبرى خلال الأعوام الخمسين الماضية انحسرت، وأن الأنماط التقليدية للثورة الليبرالية والمقاومة المحافظة لم تعد لها أهمية تذكر في لحظتنا الراهنة.
في الحالة الكاثوليكية، لا يتحوَّل الناس فجأة إلى الكاثوليكية بسبب ما قاله البابا أو فعله، كما أنهم لا يرفضون الكاثوليكية بسبب رفضهم لأوامر بابوية أو رغبتهم في تغيير العقيدة، بل يبدو أن ضعف المؤسسة الكاثوليكية، وانهيار خطوط السلطة والهيبة، جعل من السهل على البعض اعتبار الكاثوليكية ديناً، وطريقة حياة، والعثور على باب صغير يدخلون منه.
ربما يكون نوع التفكيك الذي حدث في عهد البابا فرنسيس، رغم أنه لم يكن بالطريقة التي تمنَّاها الليبراليون، ضرورياً بمشيئة إلهية لتمهيد هذا الواقع الجديد. واقعٌ ستحتاج فيه السلطة إلى إعادة بناء، لكن، في الوقت الحالي، أُزيلت في إطاره بعض العوائق أمام رسالة السيد المسيح.
إن انتخاب فرنسيس أتى نتيجة استقالة بينيدكت، وهي بحد ذاتها إيماءة تحديثية من بابا محافظ بطبعه، وقد ألمحت بطريقتها إلى بابوية منزوع عنها القداسة، أقرب إلى مؤسسة إدارية منها إلى الأبوة الروحية.
وباعتباري من معجبي بينيدكت ومن منتقدي فرنسيس، شعرت بالمرارة من قرار بينيدكت، وتساءلت، باعتباري متابعاً لحركة التاريخ، إن كان تنازله المبكر عن المنصب قد أطلق عهداً جديداً وغريباً.
ومهما كانت حقيقة هذا التوجس، فمن المهم للغاية أن البابا فرنسيس لم يستقِل، بل بقي حتى موته، وبشكل علني للغاية كشف عن ضعفه حتى اللحظة الأخيرة. ومهما كانت دلالة خياراته فيما يتعلق بالدور المؤسساتي للبابوية، فقد اضطلع بالدور الأبوي البطرسي حتى النهاية.
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».