مجازفة وأي مجازفة... توقّع أي «سيناريو» منطقي لأحداث المنطقة العربية وسط تسارع العد التنازلي للقمة العربية المقررة في 17 مايو (أيار) المقبل!
فالأمور مفتوحة على كل الاحتمالات، بلا ضوابط تتحكّم ولا مكابح تمنع الوصول إلى الهاوية. وأسباب ذلك عديدة، في مقدمتها غموض تعامل واشنطن مع ملف طهران، وتصعيد حكومة اليمين الإسرائيلية هجمتها الاختراقية في قلب المشرق العربي حيث «تدير» التشرذم والتفتيت وتزوير التاريخ. وفي المقابل، تبدو الصورة ضبابية على مد النظر... من لبنان والأردن إلى سوريا والعراق.
توقيت تطوّرات الأردن الأخيرة يستحق قراءة دقيقة. وسيكون من السذاجة المفرطة فصله عن مخطط بنيامين نتنياهو القاضي بتغيير الواقع الفلسطيني في غزة والضفة وفرض تداعياته على كيانات «الجوار». وطبعاً سيكون من السذاجة أيضاً ألّا يضع اليمين اعتبارات الاستفزاز والاستفراد والاستغلال في حسابات تعاطيه مع حالات «الإسلام السياسي» بوجهيه السنّي والشيعي.
هنا يقول المنطق إن بعض فصائل «الإسلام السياسي» ذات الحضور غير المنكور في الأردن تشعر بقلق متعدّد الأوجه:
أولها، أن مشروع «الوطن البديل» حاضر دائم في أدراج «المؤسسة» السياسية الإسرائيلية، فكيف عندما يفرض اليمين المتطرّف برنامج عمله على الداخل الإسرائيلي، والحليف الأميركي، والجيران العرب...
وثانيها، أن مغامرة «حماس» يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 غيّرت حقائق على الأرض مهما قيل عن التعاطف العالمي مع شهداء قطاع غزة الأبرياء. بل، وأعطت قوة دفع إضافية لنتنياهو لابتلاع الضفة الغربية بدءاً من جنين وطولكرم وضواحي القدس.
وثالثها، أن رهان بعض «الإسلاميين» على التغيّر السوري أثبت حتى الآن أنه ما كان في محله. إذ تبيّن أن لدى «القيادة المؤقتة» في دمشق مصالح عملية تفوق بأهميتها الاعتبارات العاطفية، بدليل الموقف السوري السلبي الأخير من الفصائل الفلسطينية المحسوبة على إيران. والحقيقة أن وضعاً من هذا النوع كان مُرتقباً منذ بعض الوقت. إذ لم يكن منطقياً، من الأساس، لفصائل فلسطينية «إخوانية» الجذور والمشارب أصلاً... أن تواصل لسنين دعم نظام يخوّن «السنيّة السياسية» و«يدعشنها» ويستقوي عليها بميليشيات أجنبية!
ورابعها، أن تركيا، القوة الإقليمية الأكبر التي تطرح نفسها حاضنة لـ«الإسلام السياسي» بوجهه السنّي وراعية لمصالحه في عموم المشرق العربي، لديها حسابات مهمة ومعقّدة مع الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا ووسط آسيا. وهذه الحسابات تتجاوز بكثير حصر مقارباتها الشرق أوسطية بخانة دعم «حماس» وأمثالها.
هذا أردنياً، فماذا عن سوريا ولبنان؟
كل المؤشّرات هنا تنم عن تراجع في قدرة إيران على المناورة في ملفات البلدين، وهذا واقع مفيد من ناحية وسيئ من ناحية أخرى.
نظرياً، أعطت خسارة طهران «ساحتي» سوريا ولبنان كثيرين من أبناء البلدين دفعة أمل كبيرة بإمكانية انصراف قادة البلدين، إذا توافرت النيات الحسنة عندهم، وأيضاً عند المجتمع الدولي، إلى «إعادة البناء». والقصد هنا «إعادة بناء» الحجر والبشر... عبر عملية إعادة إعمار واسعة، وتفاهمات وطنية عريضة وعميقة تنقّي النفوس وتعزّز الاقتناع بالمصير المشترك عند كل المكوّنات.
للأسف، لم يحصل بعد أي شيء من هذا القبيل، لأنَّ الفراغ الذي تركته «نكسة» إيران تتعجّل إسرائيل «الليكودية» استغلاله، مستقوية بالدعم الأميركي المطلق والتطبيع العربي المتسارع.
بالنسبة للبنان، يشعر بعض «أصدقاء إسرائيل» القدامى أن هزيمة محور الممانعة يفتح المجال أمامهم لإعادة تكوين «لبنان آخر» بشروطهم وشروطها. وهنا تبرز التناقضات إزاء مسائل جوهرية، منها: طريقة نزع سلاح «حزب الله»، وإعادة بناء الدولة اللبنانية طائفياً وانتخابياً وأمنياً ومالياً، وطبيعة «العلاقة» مع إسرائيل التي تتقاسم مع لبنان حدوداً برّية وبحرية في منطقة جرفية ذات ثروات واعدة.
أما على صعيد المكوّنات العابرة للحدود بين إسرائيل وكل من لبنان وسوريا، فإن لدى إسرائيل أفخاخاً كثيرة، طائفية ودينية وعرقية، كفيلة بتدمير «جارتيها» الشماليتين. والواقع أنَّ الحكومة الإسرائيلية، التي يستبعد العقلاء أن تتخلّى عن «قانون المواطنة» الذي سبق أن أقرّته، أو مشروع «إسرائيل الكبرى» الذي يؤمن به ويدعو له وزراء في حكومتها، ماضية قدماً في العبث بهويّات عدد من مكوّنات سوريا ولبنان، والأقليات تحديداً.
إنَّها تعمل - منذ وقت غير قصير - على «التقسيم الفعلي» عبر نسف أي ثقافة وطنية جامعة... وإن كانت حتى الآن تستخدم تعابير «ملطّفة» كالفيدرالية واللامركزية.
موضوع الأكراد، بالذات، ليس جديداً على الإطلاق، وهو الآن «موضوع على النار» بانتظار اتضاح رد الفعل التركي. أمَّا موضوع الموحدين الدروز فإنَّه بات يأخذ أبعاداً خطيرة عبر حرب إلغاء صريحة ضد «عروبة» الدروز و«إسلامهم»، ويزداد خطر هذه الحرب عبر التمويل والإغراء التسليحي والتدخل المذهبي والتحريض السيبراني... بهدف جعل القرار السياسي للدروز - سواءً في سوريا أو في لبنان - رهن التوجيهات الإسرائيلية.
... ويبقى وضع العراق، حيث ستعقد القمة العربية المقبلة.
رئيس الوزراء العراقي محمد شيّاع السوداني شخصية واقعية. وهو يعرف الظروف التي سهّلت وصوله إلى منصبه، كما يفهم صعوبة التعايش بين «مشروع الدولة» و«ميليشيات الطوائف». وأكثر من هذا، يعرف السوداني الموقع الجغرافي للعراق، وتكوينه الفئوي، وثرواته الطبيعية، وأخيراً لا آخراً، مصالح القوى العالمية الكبرى فيه.
الرجل يدرك، في هذه الفترة المربكة إقليمياً ودولياً، أن المطلوب من العراق كثير، لكنه كأي عاقل يفهم أن هامش المناورة ضيّق جداً.
وهكذا تظل الحقيقة المرة، أنَّه تحت سقف مصالح واشنطن، يجد العراق نفسه - ومثله المشرق العربي كله - طرفاً ثانوياً في «صراع الأحجام» الإسرائيلي الإيراني التركي!
نقلًا عن صحيفة «الشرق الأوسط».