د. أنمار الدروبي يكتب: سوسيولوجيا ظاهرة الإلحاد وخطرها على المجتمع (الشباب تحديدا)
في العربية نكتب من اليمين إلى اليسار ونطوف الكعبة على هذا النحو نُلبي ونكبر الله ونحمده على آلائه ونعمه، ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثُم هدى، لا إله سواه. هذا إيماننا وهذه عقيدتنا وقناعاتنا، لا يعنينا اللذين يطوفون بالبيت الأبيض ولا من يدور في فلك الصين أو روسيا ولا بوذا أو الدالاي لاما ومن يرقص عاريا في غابات أفريقيا واستراليا، إسلامنا لنا نعتز به ونحترم العالم كله، ومن يعيبنا عليه أن يقرأ التاريخ جيدا، حتما سيجد أجداده يتباركون بدينهم العظيم الذي حمل إليهم أنوار التحرر والعدل والمساواة بين البشر. لست في معرض سرد تاريخي ومقدمتي واضحة كشمس الضحى، أعني الملحدون لا تلعبوا في ساحتنا فلستم أهلا لتعلمونا أبجدية الإسلام ولا ثقافتكم تصلح لحالنا، انشغلوا بترميم بيوتكم ودعم أساسها الهش قبل أن تعلموننا ديننا ونبينا، لنا ما هو لنا ولكم ما لكم.
منذ فجر الخلائق لا زالت التغيرات تطرأ على عالم وجود الكائنات، التفاعل يسري بين جميع الأشياء وبشكل معقّد جدا ومنتظم لا يتجاوز المقادير الدقيقة للمكونات المعبئة في حاوية الوجود العظيم. فإذا كان الفقر والحرمان الاقتصادي والأمية وغياب الوعي الديني مثلا هي من بين العوامل المساهمة في خلق ظاهرة الإلحاد، فإن انتشار هذه الظاهرة في أي مجتمع سيفاقم تلك المشكلات التي ساهمت في خلق الإلحاد، وهذا على عكس الأهداف التي يضعها الملحدون والتي من بينها محاولة تغيير الأوضاع السيئة التي كانوا يعانون منها والتي كانت من بين الأسباب التي دفعتهم للإلحاد، فهم بذلك يدخلون المجتمع في معاناة أخرى ستقود إلى خلق أفراد ناقمين على أوضاعهم وسيتخذون من الإلحاد وسيلة لتغييرها.
موضوع الإلحاد يرتبط بالهجوم الكبير الذي يستهدفنافهوصفحة من صفحات الحرب على امتناوكلمن يتصور أن الغرب يستهدف ثرواتنا فهو واهم. لأن ثرواتنا تصلهم بدون حروب، والخطر ليس في جيوش الأعداء وعدتهم العسكرية، وإنما الخطر في عقيدتهم وأفكارهم الهدامة القاتلة. إن الملحد يحاول أن يصور الإسلام بأنه يتمثل في بعض المعممين ومراجع والطوائف والمذاهب. كذلك الملحد يقيس الدين على اخلاق بعض المتدينين، وعندما تكون شريحة كبيرة من الطبقة الدينية انتهازية يحكمون على الدين بفساد هؤلاء. وهذا جهل كامل بحقيقة الإسلام.
من هذا المنطلق نفهم بأن الإلحاد هو صفحة من صفحات الحرب التي تستهدف تدميرنا نهائيا بعد أن تم احتلال أرضنا واستباحة دمائنا وأوطاننا. عندما يأتي الملحد لينسف وجود الله في ذاتنا فهو ينسف وجودنا نحن، وينسف كل منظومتنا الانسانية والاخلاقية. بلا شك ولا ريب أن هذا الملحد لن يضر الله شيئا، والملحد يجهل حقيقة الله بإنكاره وبمعتقداته الدينية والفكرية. نعم أن الإلحاد دين شركيّ شيطاني قديم ويجدد دعواته في كل العصور. هذا من وجه معين، ومن وجه آخر إن الملحد لا يرى من الدين إلا منظور سطحي وهامشي تجسده بعض من الطبقة المتطفلة على الدين التي نسميها رجال الدين. هذه الطبقة الكهنوتية التي تتميز بأزياء خاصة لا صلة لها بحقيقة الدين وعقيدته، فمضمون أي كتاب لا يستمد قيمته العلمية من شكل الغلاف ونوعية الورق الذي يحتويه. لذلك نجد أكثر الملحدين يستدلون على فساد الدين بفساد بعض من الطبقة الدينية الطفيلية وهم بذلك يؤدون خدمة للدين نفسه بتعريته من هذه الشواذالتي تشوه صورته.
على سبيل المثال:
هل البابا الذي تكلف ملابسه الكهنوتية وحماياته ومؤسساته ملايين الدولارات يمثل السيد المسيح (عليه السلام) عيسى رسول الله صاحب المعجزات، الذي عاش فقيرا بثوب واحد، وكان لا يملك حذاء يتقي به أشواك الأرض. عيسى ابن مريم وأمه التي كانت مثالا في الصبر والعبادة وكانت فيها القيم والأخلاق العظيمة، واستأهلت أن تكون بحق سيدة من سيدات نساء العالمين. هل كان لعيسى ابن مريم مؤسسة تعيش بمستوى الرفاهية على ما عليه الآن دولة الفاتيكان؟
هل هناك رجل دين تعلم من سيدنا (عمر بن الخطاب) رضي الله عنه وأرضاه الصحابي العادلالذي كان رئيس دولة عظمى وثوبه مرقوع باثني عشر رقعة وينام تحت شجرة يتقي بفيها من الحر بلا حراسة؟
وسيدنا(علي بن ابي طالب) رضي الله عنه وأرضاه، الصحابي الزاهد الذي يخصف نعله بيديه، الشجاع الذي ما فر من موقف ولابارز أحد الا وقتله. هل كان يتصور أن قبره سيكلل بالذهب الذي عاش ولم يمتلك منه شيء؟
في الوقت نفسه لا يمكن أن ننكر مختلف العوامل الأخرى التي أسهمت في انتشار ظاهرة الإلحاد وهي مسألة العنف والتشدد الديني باسم الإسلام والإسلام براء من الإرهاب والتشدد. إضافة إلى أنالمجتمعات العربية مرت بحقبات مديدة من التجهيل والتفقير والتهميش والاستبداد، لعب الاستعمار الأجنبي دورا أساسيا في ذلك، فسرق ثروات المجتمعات العربية، وكرس الفقر والطبقية. وقد ترتبط دلالات الإلحاد في عصرنا الراهن بمطلب العدالة باعتبارها مفهوما تأسيسيا في الثقافة الإسلامية، فالملحد يرفض أن يُكرهعلى فكر أو معتقد، وعلى هذا الأساس ربط الملحدون ما بين العدل وآليات تحقيقه.وعليه فإن ظاهرة الإلحاد في مجتمعنا ليست فكرة وإنما ردة فعل، وهي بهذا تختلف جذريا عن أفكار المشركين والملاحدة الذين طعنوا بنبوة نبينا الكريم محمد (ص).
إن الحقيقة الثابتة لا تحتاج الجدل والتأويل بفرض كينونتها، وهي وجود النقيض، لكن الخطير في هذا النقيض قد تجاوز عند البعض مسألة تحديث الثقافة في عقول بعض الشباب إلى تبرير علة الخلق وبيان الأصل وبدأت تظهر نظرية ملامح التطور التاريخي كما تعرّفه لنا الماركسية، بغض النظر إذا كانت مقصودة أو غير مقصودة. من هذا المنطلق يعتبر (إلحاد).
وتأسيسا لما تقدم، تتفشى ظاهرة الإلحاد بين أوساط الشباب والمثقفين العرب، ولا نجد من يحلل هذه الظاهرة ويكشف مسبباتها قبل أن تترسّخ لتكون حالة عامة وتفرض نفسها كتيار أو حتى دين جديد. نعم دين جديد يناهض كل قيمنا الأخلاقية ومعتقداتنا ويدمر إيماننا. لكن حتى الآن يعتبر الإلحاد في مجتمعنا ظاهرة وليس حالة مستشريه، وعندما تتجسد الظاهرة وتفرض واقعيتها تكون حالة عامة، وعندما تكون حالة يلزمها أن تبرر وجودها وقبولها الاجتماعي، بالضبط كما تتشكل بعض الظواهر الشاذة ثم تأخذ مداها الحقيقي وتختفي.