مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

بديع يونس يكتب: ماذا بعد “اعتزال” الحريري؟

نشر
الأمصار

نقلًا عن موقع العربية.

كل الدلائل والمعطيات كانت تشير لتوجه رئيس الوزراء اللبناني الأسبق سعد الحريري صوب الانسحاب من الحياة السياسية، وعدم خوض الانتخابات المقبلة. لكنّ وقع الإعلان كان أقوى من المنتظر. اتّسم كلام الحريري بالجرأة والوضوح على خلاف إعلانات كثيرة سابقة حاول فيها “تدوير الزوايا” لأسباب أُجبر عليها أو أجبرته الحاجة لذلك وفق خياراته السياسية وتسوياته التي يبدو أنه “ندم عليها” إذ لم تفضِ سوى لمزيد من النفوذ الإيراني على لبنان.

 

جرأة الحريري بخلاف آخرين اتسمت بقرار مقدام يُحترم عليه، وصدق في شرح أخطاء أقرّ بها. صحيح أنه تفادى الحرب الأهلية ودخل في مساومات من أجلها بحسب قوله، إلا أنّ نتائج تلك المساومات كانت كارثية، وأكبر دليل هو مشهد اليوم في لبنان، الذي نجا من أتون حرب لكنه واجه الموت البطيء لـ17 عاماً.

 

يبقى السؤال الأبرز عن مرحلة ما بعد الحريري. يحاول كثيرون أن يطرحوا سيناريوهات تخويفية، من ملء التطرف للثغرة التي سيتركها الرجل المعتدل، إلى ملء حزب الله وإيران للفراغ المتأتي عن قرار الحريري. لكن يفوت هؤلاء أنّ الطائفة السنية ولّادة في لبنان وسيّدة في الاعتدال وفي الوطنية وفي إظهار وجه لبنان الحق. هي طائفة رفيق الحريري وإرثه الوطني في بيئة صنعته وحضنته لكونه أولا وأخيرا رمزا في الاعتدال.

 

لا مكان للتطرف في هذه البيئة ولا مكان للترهيب والإرهاب! أما لهؤلاء الذين يتحدثون عن ملء حزب الله لهذا الفراغ، فإنّ حجتهم ساقطة قبل أن يبوحوا بها. فحزب الله هيمن على البلاد وفرض التسويات بالصفقات حينا وبالقوة أحياناً. يفوت لكثيرين أنّ أصواتا مستقلة ووطنية وسيادية تصدح اليوم على الشاشات المحلية والعربية والدولية تسمي الأمور بمسمياتها منهم نواب وآخرون وزراء من الطائفة السنية الكريمة لا يهابون حزب الله وتدميره لبيروت حجرا وبشرا وللبنان من شماله إلى جنوبه فبقاعه وجبله.

 

عملت إيران وأذرعها جهارا منذ بدء الألفية الثانية على جزئيتين تسيران يداً بيد: فرفعت بإحداهما شعار المذهبية وبالأخرى استدرجت ردود الفعل عليها. تعلم طهران تماماً أنّ شد العصب المذهبي ينسحب على المذاهب الأخرى مهما كانت معتدلة أو مدنيّة. فرأينا ما حصل في العراق إبان حكم نوري المالكي الذي نقل البندقية إلى الكتف الإيراني ومارس البطش والقمع بوجه السنة قبل ظهور داعش المشبوه. وفي سوريا، لا يخفى دور النظام السوري فيما يُعرف بـ”كوريدور الجهاد” إلى العراق أكان بالحرب العراقية – الإيرانية أو بعد عام 2003.

 

لا يطيب الحديث مذهبياً في العام 2022، لكن قواعد اللعبة التي فرضها الطرف المستقوي تستدعي ذلك.

 

فمنذ اغتيال حزب الله لرفيق الحريري عام ٢٠٠٥، وعلى مدى حوالي عقدين، تعاني الطائفة السنية الكريمة في لبنان من تقهقر وإحباط متزايد يتركان آثارهما على البيئة السنية في هذا البلد بعد تأثرها بما لحق بسنّة العراق وسوريا من مآسٍ وويلات.

 

وبالنظر إلى الخط البياني لممارسات زعماء الطائفة في لبنان، يتبين للعين المجردة كيف أدّت ممارساتهم إلى انحدار سببته التنازلات المتتالية لحزب الله والتي وصلت حدّ الاستسلام.

 

أدى الخواء السياسي وضعف النظرة الاستراتيجية إلى فراغ في القيادة السنية، ترك آثاره المدمّرة على مستقبل لبنان ودوره الإقليمي حتى باتت بوابة الشرق والغرب سابقاً، جزيرة مقطوعة الأوصال عن المنطقة والعالم. بل تحوّل إلى قاعدة عدوانية تخطط وتهاجم أشقّاء لبنان وأصدقاءه. وبالرغم من التحذيرات من خطورة الفراغ في قيادة الطائفة السنية فقد أدت جملة من الأسباب إلى سيطرة حزب الله على مقاليد الحكم في لبنان واضمحلال دور الطائفة السنية بعد أن سبقتها إليه الطائفة المارونية.

 

أدّى التراكم الكمي في التنازلات الممنوحة مجانا لحزب الله إلى سيطرته من دون منازع على مقاليد السلطة. من هذه التنازلات الصمت المدوي عن جرّ حزب الله للبنان إلى حرب تموز عام ٢٠٠٦ وتكبيده البلد الخسائر بالمليارات، وعن تردّد “أولياء الدم” بالرغم من حكم المحكمة الدولية الناظرة بقضية رفيق الحريري من تحميل حزب الله مسؤولية اغتيال من كان يمثل الاعتدال السني ويقدم مثالا عمليا عن الاعتدال، إضافة إلى عدم تشكيل حكومات تمثل الأغلبية بل تقديم التنازلات في الحكومات المتعاقبة لحزب الله الداعم لحليفه ميشال عون الذي نصبه بقدرة التعطيل رئيسا للبلاد.

 

في المقابل، نجد اليوم في لبنان أصواتا سنية جادة وديناميكية وعالية النبرة بل عالية الشعار تقرن الفعل بالقول وتعيش بين أبناء الطائفة تلامس همومهم وشؤونهم وتدافع عن قضاياهم من منظار وطني غير فئوي. ففيما قدّم كثيرون من الزعامات التقليدية اللبنانيين هدية لخصمهم حزب الله، تظهر براعم جدية من آخرين يتصدون فرادى لمحاولات حزب الله مد يده على جوانب من الطائفة السنية في الجنوب وبيروت والشمال والبقاع.

 

لا فراغ ولا إرهاب ولا تعويم لحزب الله بغياب الحريري إذا أعطيت فرصة لأصوات جديدة من السياديين المدنيين المعتدلين من خارج المنظومة السياسية لتشكيل جبهة عريضة عابرة للطوائف تتصدى لمشروع إيران المذهبي في لبنان والمتمثل باختطاف حزب الله للدولة واتخاذ من فيها رهائن داخل وطنهم.