د. مصدق العلي يكتب: التعليم العالي العراقي بين مستوى الطموح و صخرة الواقع
كثر الحديث في الأونة الاخيرة عن التعليم العالي العراقي, والتطرق له حسب المنظور التاريخي. لكن يتفق الاعم الاغلب من النقاد على عدم وصوله لمستوى الطموح رغم المساعي الحثيثة للوزارات المعنية واللجنة العليا لتطوير التعليم في العراق. هنا نسلط الضوء بعض النقاط لِلَفت أنظار المعنيين والمهتمين في مجال التعليم العالي وكذلك أولياء امور المستقبل لبعض التحديات, وعند تحديد التحديات سيسهل العلاج.
دور “البعض” من الإعلام
أذكر انه بسبب التغطية الغير موضوعية لبعض الوسائل الاعلامية المرئية لاحدى مناقشات رسائل الماجستير حول موضوع الاقمار الصناعية المُصَغرة, انهالت مواقع التواصل الاجتماعية بالسخرية على صورة لنموذج قمر صناعي مختبري كانت قد تسربت للاعلام. حيث اضفى الاعلام لمسته على الموضوع بعنوان مبهرج على ان هذا العمل سيكون قمراً صناعيا حقيقيا. والحق يقال, ان النموذج كان يفتقر الى مقومات القمر الصناعي الحقيقي لكن ما اغفله المُعَلقين ,أن الموضوع تم بجهود الطالب الذاتية وبتمويل محدود ولغرض بحثي معين, ولم يكن في نية الباحث اطلاقه كقمر صناعي عراقي ليجوب الفضاء الرحب وينافس وكالة ناسا او لوكهيد مارتن في هذا المجال.
وأيضا يكثر التَمَنطق الأجوف على بعض المنصات الاعلامية وبرامج القنوات الخاصة والعامة في وصف حال التعليم العالي واليات عمله والوضع الدراسي الجامعي من قبل بعض ضيوف هذة البرامج والمنصات من غير المختصين والذين لم يحصلوا اصلا على شهادات عليا او ينشروا بحوثاً مرموقة وحقيقية في مجلات محكمة عالمية. وصفة “التمنطق” هنا تذكر كون الرأي الجهبذ الذي يدلي بة هذا المُتَمَنطِق منطلقٌ من مزيج من أرائهِ الشخصية الخاصة على وسائل التواصل الاجتماعي وتفاعله مع تعليقات ” منور , وفديتك, وتجنن” التي يكتبها المعجبون تحت صورته ذات الوضعيات مبهرجة في منشورات ارائه بدل عمل دراسة حقيقية واحصاء واقعي والزحف في وحل العمل الميداني. ولكي لايتم ظلم هذا المُتَمَنطِق, فهو قد يُستَثار من كلمة ناطق اعلامي او منشور على الميتا او تويتة من هنا أوهناك , ليشكل بها رأي جاهز مُقَولَب كما يهوى لا كما تدل الدلائل والدراسات. هذا الامر المؤسف قائم على طرح بعض القنوات الاعلامية التي تحاول استدرار المشاهدات بتحويل موضوع الدراسة الجامعية من مصدر للطاقة البشرية والتنمية المستدامة للاقتصاد والمجتمع الى علاقة بدائية بين الشاب والفتاة لتثير الخيال المجتمعي وعواطف التشكيك بمجمل الحديث وكذلك تحاول ارضاء غريزة المستمع البصرية نحو الجمالية التصويرية باستضافة ” خبير” او” باحث” بهي الطلة جميل الملابس والمُحيا كتكملة ديكور في استوديو مزركش وتطلق علية صفة الباحث والخبير جزافا بما يشتهي المُعِد او منسق العلاقات العامة. وعادة, يكون مقياس اختيارهم هو عدد المعجبين على وسائل الاجتماعي للشخص المُستضاف بدل معيار الأختصاص والمعرفة بموضوع النقاش.
هذا الانفصال بين الواقع الجامعي والرسالة الاعلامية, احد دلائل ازمة التعليم العالي العراقي. فالعاملين في مجال الاعلام ممن يمارسون هذه الممارسات الغير مهنية لم يتلقوا العلم الكافي ولم يتم تنميتهم فكرياً بشكل يسمح لهم ان يكونوا اداة بناء في المجتمع بدل هذا الدور الذي يوصف بأنه غير نافع على اقل تقدير.
ممارسات سلبية لبعض التدريسيين
من ازمات الواقع التعليمي ايضا انتشار ظاهرة شراء البحوث الجاهزة ودفع الاموال الطائلة من بعض الاساتذة الجامعيين الذين ضلوا بوصلة المنطق والاخلاق لنشرها باسمائهم في مجلات ذات “معامل سكوبس” حيث ان وزارة التعليم العراقي فرَضَته كشرطٍ ترغيبي للترقية العلمية في محاولة جيدة منها للنهوض بواقع جامعاتنا العريقة. فعند تجولك في مناطق معينة من باب المُعظم تجد اكشاك الوسطاء بين مواقع الفريلانسر الاجنبية والباحثين العراقيين, والتي تقوم بدور الوساطة لا اكثر وتضخ العملة الصعبة العراقية للخارج بعملية سمسرة اقل ماتوصف به انها لااخلاقية , كونها تُنَمي السوق الاجنبي من الباحثين الاشباح ghost writersعلى حساب البحث العلمي والسوق العراقي وكذلك تنمي تجارة مجلات ال open access الاجنبية بمبالغ تصل ل 5000 دولار للبحث الواحد بدل توظف هذه الأموال في تنمية المجلات المحلية والارتقاء بها او نشر البحوث في المجلات العالمية المحكمة مجانا, كون البحوث المُشتراة لا تملك القيمة والعلمية اللازمة لنشرها مجانا. فيخسر العراق سنويا عدة ملايين من الدولارات هدرا في بحوث لم تُنجز في العراق, ولم يتعلم الاستاذ او الطالب كيفية عملها بل وحتى كتابتها أو نشرها. فهذا الاستاذ الجامعي يبرر هذا الفعل اللااخلاقي برغبته بترقيةٍ أو زيادةٍ راتبهِ التقاعدي, وكذلك قد يرغب في استثمار لقبه العلمي بَعد تقاعدهِ ” ان حصل على لقب الاستاذية” لأيجارِه من قبل مؤسِس جامعة او كلية اهلية.
ثلاثيةُ الطاقة والمال والَمصادِر في العملية البحثية
على الجانب الاخر, يعاني السواد الاعظم من باحثينا النُجباء من ثلاث مشاكل رئيسية, وهي مشكلة الطاقة , والتمويل والوصول للبحوث العالمية الحديثة.
أما بالنسبة لمشكلة الطاقة, فقد شمل القطع المبرمج للطاقة جامعاتنا العراقية كافة. وكأمثلة على معاناة الباحثين من هذا الامر نورد التالي:-
تعاني البحوث الاحيائية الأمَرين من انقطاع تجهيز الطاقة الوطنية وتجهيز الوقود لمولدات الديزل البديلة, وتصارع الزمن والطبيعة لانجاز البحوث وحفظ وتنمية العينات الاحيائية. اما في مجال الفيزياء وتقانة النانو, فمن شبه المستحيل استدامة عملية تصنيع واقعية بدون طاقة كهربائية لتشغل الاجهزة لعدة ايام متواصلة. اما الدراسات الهندسية والتي تمتاز بتكيفها الابداعي مع الظروف باعتمادها النمذجة الحاسوبية. فحالها لا يختلف كثيرا عن سابقاتها اذ لايستطيع الباحث العراقي تشغيل حاسوبه لعدة اشهر للحصول على النائج كما لدى اقرانه في الجامعات العالمية, فيلجأ لتبسيط نموذجه الرياضي الى الحد الادنى ويُشغله في فترات الخريف والربيع ليتمكن حاسبه المحمول المتدني القدرة الحسابية, على العمل واعطاء النتائج والتي على ضوئها سيباشر في الجانب العملي من بحثه.
من جانب اخر, يجب الحديث عن معظلة التمويل الذي يعاني منه العمل البحثي, فالباحث يشتري بنفسه اغلب لوازم البحث (من القلم الى اجهزة القياس الدقيقة). يندر في بعض الحالات ان يتم صرف مبالغ مالية لشراء مواد من الخارج كبعض المواد النانوية الجاهزة و الصبغات الطبية. مع هذا يبرز ابداع منقطع النظير من بعض الطلبة والاساتذة بتصنيع بعض المواد والاجهزة بتكلفة منخفظة وبحرفية مبدعة, فتجذوا قناديل الأمل في نفوس الشباب منهم لكن ضوء هذه القناديل يبدأ بالخفوت شيئا فشيئا. لكنها لاتنطفئ, متأسية بقول الشاعر: ” أعلّلُ النفسَ بالآمالِ أرقبها … ما أضيق العيش لولا فسحة الأملِ “.
اما بالنسبة لوفرة المصادرالعلمية, فقد تم افتتاح المكتبة الافتراضية للباحثين العراقيين , والتي أثرَت المجال البحثي لعدة سنوات بالبحوث العالمية الرصينة لحين ايقافها لانقطاع التمويل. صحيح ان بعض الباحثين الان قد يتمكنوا من الوصول لبعض البحوث هنا وهناك بعلاقات خاصة او تعاون علمي على بعض منصات و مواقع التواصل الاجتماعي العلمية, الا ان هذا الامر ليس بصحيح, ولا ينمي الفكرة المُرتجاة من البحث, الا وهي حرية الابداع الفكري والمشاركة العلمية غير المقيدة. وايضا, لا تتوفر مراكز لتعليم كيفية كتابة البحوث في جامعاتنا العراقية على غرار ما نجده في الجامعات العالمية الاخرى فيتيه باحث الدراسات العليا في الظلمات الحسية والمعنوية الا ما رحم , اوقد تُغريه استسهالية اللجوء لاكشاك الوسطاء التي ذكرتها سابقا ليضل سبيل العلم والاخلاق, وبهذا يخسر العراق مع المال انسانا انزلقَ للخطيئة العلمية.
تَوَقُف الأستثمار في صناعة النُخَب
من اجل النهوض بالواقع العلمي قامت وزارة التعليم العالي ومتبوعة بمبادرة انشاء اللجنة العليا لتطوير التعليم في العراق والملحقة برئاسة الوزراء مباشرة بارسال مئات الطلبة الى الخارج لجلب التجارب العالمية والمعارف والعلوم الحديثة, لكن الامر انحسر خلال الاعوام الخمس المنصرمة. هذا الامر قد تتذبذب اسبابة مابين الاستقطاب السياسي الحزبي وانخفاظ التخصيصات المالية. يخسر بذلك العراق من هذا القرار الاقتصادي ذو الابعاد الحزبية مصدرا مهما من مصادر التنمية البشرية الشاملة. بل ويتراجع بسبب عدم الاستثمار في صناعة نخب العلمية حيث ان كارثية هكذا قرارات لايمكن وصفها.
إن صَلُحَ التعليم صلحت الدولة
وفي الختام, نُذكِر بوجوب التَفَكُر في هذه المشاكل لغرض تحديد المفاصل الاساسية التي يجب التركيز عليها من اجل اصلاح التعليم العالي والذي باصلاحه يتقدم البلد في كل قطاعاته, ولنا في اليابان والمانيا وكوريا الجنوبية والدول الاسكندنافية اسوة حسنة ومثالا يُحتَذى بِه.