د. مصدق العلي يكتب: ظاهرة العارف في العراق
في منطقة ما من العراق وفي وقتنا الحاضر، يوجد شخص "عارف"، وهذا العارف كان قد تَخَرجَ من احدى إعداديات التمريض لكنه فتح كشكا من بيته ليفحص الناس ويعالجهم، بل ويقوم بالعمليات الصغرى في كشكه المتواضع الخالي من اي مستلزمات التعقيم والنظافة الطبية.
أما في كُشكه الصغير الذي يبع فيه الدواء ايضا، فترى كل فئات الناس الاجتماعية والاقتصادية، من اصحاب الاموال واصحاب النفوذ وعامة الشعب. ذاع صيته الى درجة انه أصبح ماركة مسجلة هو وأخوته الذين لم يدرسوا الطب لكنهم يمارسون هذه " الصنعة" والتي هي "صنعة" الطب! وأصبح كشكهم الصغير مقصد الكثير كبديل عن العيادات والمستشفيات في بغداد.
وليس ببعيد عن هذه القصة الخيالية بمأساويتها والواقعية بشخوصها ومكانها، يكثر الحديث بغير علم في الكثير من الامور الحساسة والمهمة، وكذلك صناعة رأي عام منحرف عن حقيقة الأمور، والخطير على المجتمع وحياة الانسان في نتائجه المأساوية. وكمثال على ذلك ما حدث مع خبير في الطاقة المستدامة، عندما قطع حديثه من قبل الناس في احدى الجلسات العامة لتبدأ سيدة غير متخصصةٍ، بالإفتاء في انواع الطاقة المتجددة بعيدة عن الحقيقة والصواب ولم يعجبها سماع رأيه بعد ان سألوه عنه عندما بدا بإيضاح بعض الخرافات والمعلومات المغلوطة والمتناقلة من بوستات الفيس بوك والقيل والقال من العارفين.
أو ما يتناقله العارفين ومقلديهم من وصف علاجات طبية خطيرة لأمراض مهددة للحياة، وكلامهم مبني بشكل كلي على قيل وقال من الواتساب او الفيس بوك. وكذلك تناقل اخبار وصور الناس وكيل الإدانة لهم، بل والمطالبة بقتلهم، بناء على خبر من فاسق او مُضلل.
بل أن أستاذًا في القانون الدستوري، تعرض لكل أنواع الإساءة والتنكيل وهو المُعارض الشرس والحكيم، لا لشيء الا انه عبر عن رأيه القانوني والدستوري بضرورة تعديل فقرات في الدستور وكذلك دعوته شباب العراق للوحدة ونبذ الفرقة والطائفية التي يبثها مُتاجري الدم والحروب. كان قائد أغلب هذه الإساءات، عارفٌ مأجور لقوى الظلام والجهل.
ثقافة العارف انتقلت للسياسيين
يبدوا أن ثقافة العارف انتقلت للسياسيين ايضا ليخرج علينا إعلاميا، مساندين لآراء اقتصادية مسندة الى الجهل والجريمة المنظمة. ويدعم هكذا مساند سيئة الاعلام الذي يموله مساند الشر والبؤس.
يبدوا أن الجماهير في العراق وصلوا لمرحلة من الكأبة المجتمعية انهم يريدون ان يُقادوا بالقوة لرأي معين بدل ان يتعلموا ويتفكروا، وان كان القائد عارفا لا عالما. بل يسهل التسليم لقيادة العارف كونه ذو ثقة مفرطة بنفسه لعدم اعتقاده باحتياجه للتعلم.
فمَنطِقُه الفَذ بنظره القاصر فوق علم عليم او مختص. وزد على ذلك ان هؤلاء العارفين غالبا ما يسوقون المقولة التي بدأت تنتشر بخبث في العراق والتي تنص على: (العمل بذكاء اهم من العمل بجهد). تلك المقولة التي ظاهرها جيد، وباطنها سيء وخبيث. لذلك لا تجد في العراق اي صناعة تصل لنسبة تصنيع داخلي 100%. حيث ان العمل الجهيد أصبح من حصة اليابان والصين وكوريا الجنوبية والاتحاد الاوربي وامريكا لغبائهم وذكاء العارف ومن يهلل له ويتبعه بعمى وتَعَصُبْ.
وكمختصر فان اسس ومنطلقات العمل لدى العارف في كل توجهاته الحياتية مستندةٌ لمبدئي: "هي الكلاوات" و "السبع اللي يعبي بالسكلة رقي" من دون ان يعير اهمية لمصدر الرقي او طريقة الحصول على هذا " الرقي".
في السياسة العراقية الان، كل شيء مستباح، كل شيء بما في ذلك اقتصادنا وصحتنا وقلوب احبتنا وضحكة ابنائنا ودمعة امهاتنا وعرق جبين ابائنا، ومستقبل بلدنا، وتغييب الرأي العام وجر المجتمع نحو التفاهات ومحاربة العلماء والمتخصصين من أدوات ممارسة السياسة العراقية. وظاهرة صناعة العارفين ودعمهم اللامحدود من أولويات صانعي المشهد السياسي المعاصر.
السؤال هنا، ومع انتشار ظاهرة العارف في مفاصل الحياة العراقية، هل ان العوارف في العصور المظلمة التي نعيشها الان هم ابواق المجاعة والخراب الكامل المنتظر من سفهاء سياسة الانبطاح الاعمى ام انها كظاهرة، ايذان بعاصفة شديدة ستعصف برياح التغيير ضد كل المعتقدات المتخلفة والخبيثة والتي ساهمت في نمو وازدهار ظاهرة العارف؟
ولا ختام الا بقولة تعالى: فأما الزبد فيذهب جفاء واما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.