"عيد النصر" في الجزائر.. ذكرى وقف إطلاق النار الـ60 مع فرنسا
يعد هذا النصر أقرب لنصر عسكري وسياسي ميداني، وأشبه بعيد الاستقلال، هو "عيد النصر" بالجزائر الذي تمر ذكراه الـ60 اليوم السبت.
وتحتفل الجزائر، اليوم، بمرور 60 عاماً على توقيع "اتفاقيات إيفيان" التي أنهت الحرب بين "جبهة التحرير الوطني" الذي كان الممثل الشرعي للثورة الجزائرية والجيش الفرنسي، بعد 132 سنة من الاحتلال، قبل أن يجرى استفتاء على تقرير المصير في 1 يوليو/تموز من العام ذاته، توج بنيل الجزائر استقلالها في 5 يوليو/تموز بعد 132 سنة من الاحتلال.
وعقب ثورة دامت 7 أعوام ونصف العام، رضخت فرنسا الرسمية للجلوس على طاولة المفاوضات مع الحكومة الجزائرية المؤقتة للتوصل إلى حل نهائي لوقف إطلاق النار بين الجانبين، والقبول بتقرير الجزائريين مصيرهم "بعيدا عن فرنسا الاستعمارية".
رسالة تبون إلى فرنسا في ذكرى النصر
اعتبر الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، الجمعة، أن "جرائم الاستعمار" الفرنسي في الجزائر لن تسقط بالتقادم، داعيا إلى "معالجة منصفة" لملف الذاكرة، كما جاء في رسالة نشرتها الرئاسة بمناسبة الذكرى الستين لتوقيع اتفاقيات إيفيان التي مهدت لاستقلال الجزائر.
وجاء في الرسالة التي نُشرت عبر مواقع التواصل الاجتماعي وفي وسائل الإعلام الحكومية: "أَشرقت في سماء الجزائر المجاهدة في ذلك اليوم تَباشيرُ النَّصر واستمد منها الشعب الجزائري القوة والعزيمةَ، لمجابهة آثار دمار واسِع مَهُول.. وخَرابٍ شَامِلٍ فَظِيعْ، يَشْهد على جرائمِ الاستعمارِ البشعةِ التي لن يَطالَها النسيان، ولن تسقطَ بالتقادم".
وأضاف تبون في رسالته بمناسبة "عيد النصر" أنه "لا مناص من المعالجة المسؤولة المُنصفة والنزيهة لملف الذاكرة والتاريخ في أَجواء المصارحة والثقة".
وذكّر بمطلب بلاده "استرجاعِ الأرشيف، واستجلاءِ مصير الـمفقودين أثناء حرب التحرير الـمجيدة، وتعويض ضحايا التجارب النووية" التي بدأت في 1960 واستمرت حتى 1966، أي 4 سنوات بعد استقلال الجزائر.
ووقّعت الحكومة الفرنسية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في 18 مارس 1962، على اتفاقيات إيفيان (منطقة في وسط شرق فرنسا) التي نصّت على وقف إطلاق النار في منتصف نهار اليوم التالي بعد أكثر من 7 سنوات من الحرب.
بداية قصة النصر
الـ19 من مارس/آذار يسمى في الجزائر "عيد النصر"، وهو التاريخ الذي تقرر فيه توقيف القتال بين "جيش التحرير" الجزائري والجيش الفرنسي عقب التوقيع على اتفاقيات "إيفيان" في 18 مارس/آذار 1962.
وبعد أن تبنت الثورة الجزائرية استراتيجية تحررية متكاملة "عسكرية وسياسية ودبلوماسية ورياضية"، لم يجد قادة فرنسا إلا الجلوس على طاولة المفاوضات مع ممثلي الشعب الجزائري لـ"الخروج بأقل الأضرار".
ولم تصل الثورة التحريرية الجزائرية (1954-1962) إلى ما وصلت إليه إلا بعد مراحل طويلة بدأت منذ 1 نوفمبر/تشرين الثاني 1954 عندما فجر الجزائريون ثورتهم لنيل الاستقلال سرعان ما امتد لهيبها إلى معظم أرجاء البلاد.
كما لم تصل الثورة إلى وقف إطلاق النار إلا بعد مسار طويل من النضال وكذا من الاتصالات والمفاوضات السرية والعلنية التي جرت على مراحل مع الطرف الفرنسي، وفق ما تؤكده عدة مراجع تاريخية.
البداية كانت في فبراير/شباط 1955، حيث جرى أول اتصال رسمي من السلطة الفرنسية بين الرائد مونتاي (الملحق بديوان الوالي العام على الجزائر جاك سوستيل) مع المناضل الجزائري مصطفى بن بولعيد بالسجن في تونس، وهو أحد مفجري الثورة التحريرية الجزائرية.
وفي مايو من العام ذاته، تجدد اللقاء في العاصمة المصرية القاهرة بين الوفدين ولم يحصل الوفاق بينهما.
تطور خطر حدث بعد ذلك في أكتوبر/تشرين الأول من العام ذاته، عقب اختطاف الوفد الجزائري المكون من محمد خيضر، حسين آيت أحمد، أحمد بن بلة، محمد بوضياف ومصطفى الاشرف أثناء تنقلهم من المملكة المغربية باتجاه تونس للمشاركة في اجتماع قادة المغرب العربي، والتي كانت أول قرصنة جوية في التاريخ نفذتها المخابرات الفرنسية، أدت إلى توقف المفاوضات وانقطاع الاتصالات بين جبهة التحرير الوطني والحكومة الفرنسية.
وبعد تشكيل الحكومة الجزائرية المؤقتة بالقاهرة في 19 سبتمبر/أيلول 1958، قام الجنرال شارل ديجول بزيارة إلى الجزائر وأعلن في خطابه بمحافظة قسنطينة (شرق) عن مخطط التنمية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية المعروف بـ"بمشروع قسنطينة".
"سِلم الشجعان"
وفي 23 أكتوبر 1958، عقد الجنرال شارل ديغول ندوة صحفية في باريس وأعلن عن "سِلم الشجعان"، دعا فيه المناضلين الجزائريين إلى تسليم أنفسهم، واقترح على قادة جبهة التحرير الوطني الموجودة بالخارج الالتحاق بباريس للحوار لإنهاء الوضعية القائمة بالجزائر، فرفضت الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية العرض.
وفي 16 سبتمبر 1959، ألقى الجنرال شارل ديغول خطاباً أعلن فيه حق الشعب الجزائري في تقرير مصيره، ليأتي الرد سريعاً من حكومة الجزائر المؤقتة ويعلن استعدادها للدخول في المفاوضات مع الحكومة الفرنسية حول الشروط السياسية والعسكرية لإيقاف القتال، وشروط ضمانات تطبيق تقرير المصير.
مفاوضات
ورسمياً في 10 نوفمبر 1959، عرض الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديغول على قادة الثورة الدخول في المفاوضات لبحث شروط إيقاف القتال وإنهاء المعارك، فجاء الرد الجزائري موافقاً وتعيينه لقادة الثورة المعتقلين في فرنسا للتفاوض، لكن ديغول رفض ذلك بحجة أن المعتقلين خارج المعركة.
وفي فبراير 1960، جرت اتصالات بتونس بين عبدالحفيظ بوصوف وزير التسليح والاتصالات العامة في الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية والمؤرخ أندري جوليان، ليعلن بعد ذلك الجانب الفرنسي عن استعداده لاستقبال وفد عن قادة الثورة في باريس من أجل إيجاد نهاية مشرفة للمعارك، فقبلت حكومة الجزائر المؤقتة العرض وقررت إرسال مبعوثين عنها وهما محمد الصديق بن يحي وأحمد بومنجل.
وفي نوفمبر 1960 ذكر شارل ديجول للمرة الأولى في خطاب له اسم "الجمهورية الجزائرية" بعد أن رفضت الحكومة الجزائرية المؤقتة شروطه من بينها وضع السلاح ووقف القتال.
وبعد أن حاول الرئيس الفرنسي الأسبق طرح فكرة "تقسيم الجزائر ترابياً" وسط رفض جزائري، اندلعت مظاهرات حاشدة في عدة مدن جزائرية وفرنسية في 11 ديسمبر/كانون الأول 1960، قبل أن تصدر الجمعية العامة للأمم المتحدة في 20 من الشهر ذاته "لائحة اعتراف بحق الشعب الجزائري في تقرير مصيره".
وفي نهاية يناير 1961، أبلغت الحكومة الفرنسية نظيرتها السويسرية برغبتها في الاتصال من جديد بجبهة التحرير الوطني الجزائري، فاتصل الوزير السويسري أوليفي لونغ بأحد مسؤوليها للنظر في إمكانية إجراء مفاوضات رسمية، فاستجابت قيادة الثورة الجزائرية لذلك.
في 20 فبراير 1961، انطلقت محادثات سرية في لوزان السويسرية بين الوفدين الجزائري والفرنسي وما طبع المحادثات أن وجهة نظر الفرنسيين كانت تعني "الجزائر الشمالية دون الصحراء"، أما الجانب الجزائري فأراد التفاوض حول ضمانات تقرير المصير والسيادة الكاملة على كل البلاد، مما جعل مواقف الطرفين متباعدة حول القضايا المطروحة للحوار، وانتهت المفاوضات بالفشل بعد 7 ساعات من المحادثات.
في أبريل 1961، حدث تمرد داخل الجيش الفرنسي قاده 4 جنرالات ضد سياسة الجنرال ديجول رئيس الجمهورية الخامسة، فوجدت السلطات الفرنسية نفسها في خطر وأصبح الانقسام واضحا داخل القوات العسكرية الفرنسية، الوضعية التي أرغمت شارل ديجول على إيجاد حل عاجل للقضية الجزائرية، فأخبر الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بأنه على استعداد للتفاوض مع جبهة التحرير الوطني كممثل وحيد للشعب الجزائري، وعلى إثر هذه الأحداث أعلنت الحكومتان الجزائرية والفرنسية عن فتح المفاوضات الأولى رسميا بمدينة إيفيان السويسرية يوم 20 مايو/أيار 1961.
وانطلقت المفاوضات رسمياً بين الحكومتين بحضور الوسيط السويسري أوليفي لونغ، حيث عرض الوفد الفرنسي الهدنة، ووقف العمليات العسكرية، وقانون امتيازي للأوروبيين وأخيرا حق تقرير المصير للثلاثة عشر مقاطعة في الشمال دون الصحراء، لكن الوفد الجزائري رفض مبدأ المساس بسيادة ووحدة التراب الوطني، فتوقفت المفاوضات في 13 يونيو/تموز بعد رفض الوفد الجزائري للمطالب الفرنسية.
في يوليو 1961، عقد الرئيس الفرنسي الأسبق شارل ديجول ندوة صحفية أعلن فيها بأن "الجزائر دولة مستقلة"، واستمرت بعدها المفاوضات بين حكومتي البلدين على عدة مراحل، قبل أن يؤكد أن "الصحراء جزائرية" في سبتمبر/أيلول من الشهر ذاته.
اتفاقيات إيفيان
وبعد نحو عام كامل من الاتصالات والمفاوضات، توصل الوفدان الجزائري والفرنسي لبنود اتفاقية عرفت بـ"اتفاقية إيفيان" (نسبة إلى مدينة إيفيان السويسرية)، بموجبها تم وقف إطلاق النار عبر كامل التراب الجزائري يوم 19 مارس 1962 على الساعة 12 زوالا.
وتضمنت الاتفاقية محوران، الأول حول تنظيم "الشؤون السياسية والعامة في الجزائر" خلال المرحلة الانتقالية التي تمتد من 19 مارس/آذار إلى غاية الإعلان الرسمي لاستقلال الجزائر في الـ5 من يوليو/تموز 1962، وهي الفترة التي نظم فيها الاستفتاء الشعبي الذي نال بموجبه الجزائريون على الاستقلال بالأغلبية الساحقة، حيث اختار الشعب بالأغلبية الانفصال عن فرنسا والعيش في وطن حر ومستقل يحمل اسم الجزائر.
واتخذت الحكومة الفرنسية جملة من الإجراءات السياسية والقضائية تحسباً لذلك، تضمنت إطلاق سراح جميع السجناء الذين كانوا يقبعون في السجون سواء في الجزائر أو في فرنسا، والسماح للفارين من الجزائر خلال سنوات الثورة واللاجئين إلى دول مجاورة مثل تونس والمغرب بالعودة إلى بلادهم، والاعتراف بحزب جبهة التحرير الوطني حزباً سياسيا شرعياً.
وكذا إعطاء الحرية الكاملة للحكومة الجزائرية في اختيار مؤسساتها ونظامها السياسي والاجتماعي وفق مصالح الشعب الذي تمثله وبسط سيطرتها على كامل التراب الوطني وفرض سيادتها في جميع المجالات، لا سيما في مجالي الدفاع العسكري والشؤون الخارجية.
أما المحور الثاني من الاتفاقية فقد تضمن "ضمان مصالح فرنسا والفرنسيين الاقتصادية والتعاون في مجال استثمار الثروات الطبيعية".