مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

قاسم عبدالأمير عجام: نحو 40 عاماً من مفهوم شخصي للنقد الفني والأدبي

نشر
الأمصار

حين سأل الناقد والباحث قاسم عبدالأمير عجام في أواخر أيامه (اغتيل في 17-5-2004) فيما اذا انقطع عن "الواقعية الاشتراكية" في مقاربته النصوص الأدبية أو العروض الفنية في الدراما التلفزيونية والسينما والمسرح، أجاب "هل المقصود بالقطيعة مع الفكر الماركسي كموقف ام ان الســــــؤال يقصد الانقطاع عن التواصل مع منجزه (الفكر الماركسي)؟ وهو هنا المنجز الأدبي والنقدي بالذات، أم تراك تقصد القطيعة بمفهوم القطع بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وما كان يعــرف بالمنظومة الاشتراكية وما يعنيه من تراجع أو أفول للماركسية"؟

في نقد "الواقعية الاشتراكية" 
اذا كانت الواقعية الاشتراكية خطوطاً حديدية من القواعد والثوابت في مقاربة الأدب والفن، فالراحل قاسم عجام ظل بمنأى عن تلك الخطوط حتى وإن كان مواظباً على النشر في أمهات الصحف والدوريات الماركسية عراقياً وعربيا، بل هو يذهب هنا إلى القول "هي تداخلات لابـد من الانتباه لها قبل الاجابة ولكنك ستجد أن اجابتي تختزل تلك الاحتمالات أوالوان القطيعة الا أنها لم تكن عاملاً شديد التأثير في خياري النقدي لسبب بسيط هو أننـي لم اطوق نفسي بخطوط حديدية من القواعد والثوابت التي قد تكون فعلا "من سمات الماركسية في الادب او ألصقت بها استنادا" لتطبيقات ضيقة الافق محدودة العطاء فصار ينظر اليها أو الى الماركسية في الأدب كنوع من الجمود والإنغلاق وضيـق الأفق الذي يبلغ حد المصادرات. ولم يكن الامر كذلك بالنسبة لي..لأنني ببساطة أمسكت بما رأيته جوهر النزعة الاشتراكية في الأدب والإبداع عموما وهو رسالة العمل الابداعي وصلته بواقعه الاجتماعي الذي يفرزه، فكان الانحياز للحلم الانساني والانتصار للإنسان في محنته أو تألقه من ثوابتي التي اتحراها في العمل الابداعي الذي شرف صفة الابداع على صعيد بنائه وما تحتشد فيه من حرفيات فنية".
وإذا كان ذهن الكثيرين قد ذهب إلى أن المنطلق الماركسي في الادب والفن يعلي من شأن المضمون على حساب الشكل، وانه معني بالفكرة قبل أي فحص نقدي، استنادا إلى تطبيقات اتخذت من قواعد نظرية الانعكاس وسيلة مباشـرة لاطلاق أحكام قاطعة، باعتبار تلك التطبيقات هــي  كل ما تتيحه الرواية الماركسية للأدب وأنها أعجز من أن تدرك ابعاد العملية الابداعية على صعيدي الشكل لغة وبناء، فالناقد قسم عبدالأمير عجام يشدد في هذا الشأن " لحسن الحظ لم أقع في أغــراء المضمون مهما علا صوته في إعلان "انحيازه" للمثل أو القيم الانسانية ما لــم  يتخذ شكلا فنيا يضعه في دائرة الفن ان لم يكن الابداع ولم أشعر أن منطلقاتــي تقيدني أو تمنعني من الاحتفاء بأعمال لم تنطلق من واقع مشخص عيانيا بل اقامت واقعها الخاص استنادا لفعل المخيلة لكنها اعلت من شأن الإنسان وانحازت إلـى ارادته. 

مع المنهج النصي لكن لم تبهره اللعبة الشكلية 
ومثلما وضع الراحل فاصلاً شخصياً مع الإطر الجامدة في "الواقعية الإشتراكية" لم تبهره اللعبة الشكلية برغم كل ما تداعت به من مقولات عــــن "الحداثة والتجاوز وسقوط الإيدولوجيا".
كان تواصله حيوياً مع تطوير أدواته النقدية واستفادته من المناهــج النقدية التي أعلت من شأن النص، وسيلته لتعميق الموقف الأساس وهو إنسانيــــــة العمل الادبي وارتباطه بقضية اجتماعية وإرادة الانسان دونما قطيعة بمستجــدات الفكر، وظل الفكر يزوده بروح البحث عما ينطوي عليه العمل من جماليـات وما يربطه. 
وفي البحث الذي قدمه الى الحلقة الدراسية للمربد الثالث عشر دعا الى استثمار أكثر من منهج واحد لإضاءة أكثر ما يمكن من جوانب النص وأعماقه وصولاً الى تفعيل البعد الثقافي للنص وعلاقته بالقاريء العام. بمعنى أنه لم تكـــن العملية النقدية التي مارسها مستندة الى مسطرة، فاذا قطعت او كسرت المسطــرة اضطربت، ولم يكن النقد الذي حاوله استنادا الى جدار يؤدي انهياره الى توقـــــف العمل النقدي.

نتاجه النقدي يتعمق في مشوار "الثقافة"
كان ذلك في شباط 1971 حين صدر العدد الأول من مجلة "الثقافة" التي ترأس تحريرها الدكتور صلاح خالص وجاء عددها الثاني وفيه تلك المزاوجة بين الفكر والابداع بين السياسي والثقافي ولكن بنوع من التوازن، كان قاسم عبدالأمير عجام وقتها ممتلئا بقراءات ما يمكن ان نسميها فترة الصمت عن النشر بعد ان كانت البداية (عقب تموز 1958) قد أشعلت به جملة طموحات لمواكبة النشر مع تطور القراءة ولكن جو "الردة العارفية" أبقى البداية عند خطوتها الاولى ... وأبقته يكتب لنفسي، حتى اذا أشعلت مجلة "الهدف" الفلسطينية الرغبة في المعاودة والحقت "الثقافة" في دعوتها للمشاركة في مشروعها كان قرار العودة للنشر قد اصبح بالنسبة له حاجة شخصية.
عن هذا الجانب يقول عجام "الحق انني أريد ان اقف عند هذه المسألة ... وهي انني منذ التكوين وجدت في الكتابة وسيلة كبرى للمثقف ان يسهم في حياة شعبه وزمنه، وتطبيقا لذلك كان كل مقال كتبته يلبي حاجة فكرية نضجت بي من خلال معايشتي للاحداث محليا وعربيا أو عالميا.
ما اريد قوله هو ان المقالة او الكتابة لن تجد حياة حقيقية حتى تنطلق من نفس كاتبها كحاجة تمس اعماقه، حتى تحمل عنه رسالة ملحة هي اسهامه في الشأن الاكبر الثقافي او السياسي ودون تلك اللذعة الشخصية يبقى القول كتابة تكاد تكون ملساء ... واسارع للقول ان الموضوعية حتى في البحث الاكاديمي لا تنفي السمة الذاتية وهي هنا تصريف قناعات الباحث الجمالية بين مفاصل البحث".
بتلك الرغبة للمشاركة في الشأن العام عاد قاسم عجام الى الكتابة، وبها لبّى دعوة مجلة "الثقافة" الموجهة لكل المثقفين للاسهام فيها ... "لقد بدأت بنقدها هي، نقد عدديها الأول والثاني نقداً شاملا صريحا، وكأنني اختبر صحة دعاواها في احترام حرية الرأي، لم يوفر حتى شكل الغلاف او نوع الخطوط وشكل تصحيف المتن دون إغفال لحقيقة انها لم تبرر نفسها كمجلة مستقلة عن المجلة التي انسلخت عنها وان عليها ان تفعل ذلك أو ان تبقى رقما في المتشابه من المجلات. نشر نقدي كاملا، فأغراني بمعاودة الكتابة اليها ثم اللقاء برئيس تحريرها الاستاذ الراحل صلاح خالص ليكون اللقاء بداية صداقة سعدت بها واتشرف بالوفاء لها وبداية تجربة للكتابة المتواصلة شهريا دون قيد أو حتى مقترح لموضوع".
تستحق تجربة عجام مع "الثقافة" وقفة لوحدها لكنها جزء من مسار تكوينه الثقافي والفكري "وإن كان لا بد من توقف عندها فلكي أشدد على السماحة الفكرية التي تحلت بها هذه المجلة وانفتاحها على المكونات الثقافية ... علمية أو فنية دونما مغادرة للبعد السياسي للثقافة بل بادامة حضوره في كل ألوان الابداع شفافا، متمشيا في النسيج العام للمادة الثقافية المنشورة حتى لو كانت تقريرا عن مؤتمر علمي لبحوث الدماغ ... او دراسة في علم النفس واختبارات الذكاء. أولت هذه المجلة الحياة الجامعية اهتماما دائما وتفصيليا لا لأن رئيس تحريرها استاذ جامعي رائد ومن مؤسسي جامعة بغداد فقط بل لأنه كان يرى في الحياة الجامعية المعافاة اكبر عوامل عافية التطوير الاجتماعي ... وانها المجال الأمثل لحرية الابداع والبحث ووضع قواعد الانطلاق.ولقد مارس رؤيته تلك في ان جعل المجلة ميدانا لحرية الكلمة والدعوة اليها ونقد ما يحول دونها."
لقد قدّم الراحل قاسم عجام مقالا واسعا عن الواقع الثقافي في اوائل السبعينيات تحت عنوان "شيء من الشجن – ملاحظات في واقعنا الثقافي " نشر في العدد الأول "للثقافة" عام 1973، فتحمس لنشره الراحل صلاح خالص متعهدا ان المجلة ستتحمل كامل المسؤولية عنه، وعنه يقول قاسم عجام "وإذ نشر راح يواليني (خالص) بنقل أصدائه في الجامعة وفي الوسط الثقافي ... قال عنه علي جواد الطاهر كذا، سُر مهدي المخزومي لسلامة لغته سروره بافكار المقال، اعتبره داود سلوم كيت ... الخ، ولقد حوّل الرجل بيته الى مكتب للمجلة ووجد في الاستاذة زوجته الدكتورة سعاد محمد خضر حماساً أشد لشروع المجلة وعونا في كل ما يحقق اهدافها، فتحول البيت الى ملتقى لشخصيات ثقافية وحوارات لا تهدأ في كل جوانب الابداع والفكر وكان يحرص على ان يحتفي بابرز الشخصيات الفكرية والثقافية التي تزور العراق خلال المهرجانات الثقافية او المؤتمرات العلمية، وفي رحاب مكتبته التقيت غالي شكري واحمد عباس صالح ومحمد عفيفي مطر وسليمان فياض وغيرهم كثير ... توانسة ومغاربة ولبنانيين وسوريين !... شباب من كلية الفنون وممثلين وموسيقيين من اجيال شتى، وكانت سعادته الكبرى ان يقدم لهذا او ذاك من ضيوفه من يكون حاضرا من كتّاب المجلة بصفته تلك "!!
عن مشواره مع "الثقافة" يضيف قاسم عجام "حين علمت المجلة بسفري الى مصر في دورة علمية – ولم اخبرها قبل السفر – حصلت الدكتورة سعاد على عنواني في مصر وكتبت لي تكلفني بأن اتحدث مع الوسط الثقافي في مصر مندوباً عن المجلة، وبهذه الصفة اجريت حديثا مع نجيب محفوظ عبر لقاءات متعددة، وبها حضرت وسجلت مادار في ندوة يوم المسرح العالمي في آذار عام 1972 بين كبار كتّاب ومخرجي وممثلي المسرح المصري الجاد ... وبها تابعت جديد جماعة السينما المصرية الجديدة ... مما ملأني احساسا بضرورة التخطيط للتقدم على كافة المسارات الثقافية.
نقد مثير للجدل في "طريق الشعب"
بذلك التفتح والحرص على الحقيقة وبذلك الاحتشاد للشأن الثقافي اضاف الراحل للكتابة في المجلة "الثقافة" الكتابة في الصحافة اليومية. وكانت "طريق الشعب" محطة بارزة أخرى من محطات النتاج النقدي وهذه المرة عبر نقد التلفزيون الذي نظر إليه الراحل بكونه وسيلة مهمة ومثيرة للجدل من وسائل الإتصل المعاصر. 
عن مشواره مع "طريق حقا انها بدأت بسلسلة مقالات تحت عنوان موحد "كلمات في ايام النار" بوحي من وقائع حرب اكتوبر المجيدة 1973 وخلالها، نشرت في الصفحة الثقافية لجريدة طريق الشعب، إلا ان المساهمة الأهم بدأت في مقال موسع عن التلفزيون عنوانه يدل على حجم وعمق الهَمْ الذي افرزه ... "التلفزيون ... التلفزيون" الذي نشر ليومين متتاليين على صفحة تكاد تكون كاملة من الجريدة.
ومثلما أثار مقاله "شيء من الشجن" في "الثقافة" حين تناول بالنقد الواقع الثقافي العراقي، ردود فعل متعددة الاشكال ما بين التأييد والرفض، أثار مقاله عن التلفزيون رد فعل أكبر كان من بين مفرداته وعن ذلك يقول عجام "علمت أن بعض مسؤولي أقسام التلفزيون طالبوا باتخاذ شيء ! لكن المدير العام للاذاعة والتلفزيون وقتها وكان الاستاذ محمد سعيد الصحاف ادرك ماوراء كتابته من حرص وثقة بامكانيات هذا الجهاز وفن رسالته ... ولذا اجتمع بمسؤولي اقسام التلفزيون لينشر على مائدة الاجتماع ذلك المقال بجزأيه معتبرا ان صاحبه قد قام بما كان يجب ان تنجزه الاقسام نفسها لنقد ما قدمته ومتابعة آثاره ... وخلص إلى دعوتهم لدراسته والاستفادة مما ورد فيه، وفي خطوة أخرى أسعدني بها وشرفني انه طلب من برنامج "السينما والناس" إستضافتي لتقديم احدى حلقاته، وإذ لبيت دعوة البرنامج وجدت مقدمته (اعتقال الطائي) تدعوني الى لقاء الاستاذ المدير العام. لم يكتف الاستاذ الصحاف بترحيبه الحار ولا بالإعراب عن سروره بمتابعتي النقدية للتلفزيون، وقد تجددت بمقالات أخر، وانما منحني من وقته، ذلك النهار كله، إذ قرر ان يضيفني بين كل العاملين في كافتيريا التلفزيون وان يحضر معي العرض السينمائي للفيلم الذي سأتحدث عنه حتى نهايته، ولم ينس وهو يشد على يدي مودعا بعد جلسة شاي، ثالثة أو رابعة، ان يدعوني للتحدث عن الفيلم بكامل الحرية وبكل قناعاتي، وقد فعلت وربما لهذا السبب حظيت هذه الحلقة من البرنامج بما حظيت به حلقات متميزة قبلها أو بعدها من اهتمام وطلبات للاعادة كما افادت مقدمة البرنامج في ذكرى الحلقة الاولى للبرنامج.
هذه البداية، بما احاط بها من اثر عززت قناعاتي بدور الكتابة وعززت بشكل خاص اهمية الانطلاق من انفعال داخلي بموضوع الكتابة مما اشرت اليه قبل قليل، واستدعت المواصلة".