عبدالرحمن الكناني يكتب: إنهيار إنسان الشبكة العنكبوتية
البحث عن موقع الإنسان المعاصر في ظل المتغيرات الدولية وانبعاث الفكر الأمريكي الحديث الذي أحدث انقلابا جذريا على مستوى الحياة البشرية في كوكب الأرض قاطبة، متخلية عن شروطها الأخلاقية الإنسانية ومتجردة عن المبادئ لصالح ثقافة الاستهلاك التي أضحت عنوان الوجود الإنساني الراهن.
جيل هرم، يتآكل، قبرته حركية الحضارة الجديدة وجعلت من مثواه الأخير شاهدا لأثر قديم، يعتني به الآثاريون الذين يجدون فيه اكتشافا تاريخيا يستحق البحث والتنقيب، تتناقل خصائصه الأجيال الآتية إنسانا كان يحيا بتوازن الروح والموضوع.. الذات والعقل،المادي والمحسوس، يتحرك، يفكر، ينتج، يتصارع ويتعالى بقيمتي التضحية والإيثار.. فالعصر الذي و دعناه بالأمس عصر السياسة والمؤسسة والأمة، ببلوغ عصر "الإمبراطورية الأمريكية" السائر بخطى النمط الاستهلاكي الموحد للأجناس البشرية الخاضعة لهيمنة القطب الواحد.. يرتفع فوق أنقاضه إنسان الشبكة العنكبوتية مجردا من المبادئ.
أين تكمن مجالات بقاء الإنسان ؟
الجسم السياسي الآخذ بالانهيار، فتنهار معه أركان أمة لا يبقي مجالا للإنسان في التعبير عن قيم الانتماء للأرض والذات وتطبيق القوانين فهذه المفردات بدأت تتراجع أمام تطورات المجتمع الحديث، طالما امتدت شبكة الاتصالات فتعرض علاقة الإنسان بجسمه السياسي للمزاحمة من قبل كم هائل من الاتصالات المنتشرة خارج هذا الجسم، بشكل تبدو معه الأفكار والسياسة والقيم بعيدة كل البعد عن أي مبدأ منظم لحياة المجتمع.. الذي يحتاج الآن لأدوات جديدة في التحكم في مسيرة الحياة.
نحن في طريقنا لبلوغ هذه العصر الجديد.. لكننا لم نملك أية رؤية حضارية تعبر عن خصائصنا نتمكن من خلالها إشغال ذلك العصر الذي لا يمنحنا صفة الامتياز في خارطة الإنسانية الحديثة.. الإنسان أشبه بتلك الآلة التي اعتادت التسارع في حركتها دون توقف لا وقت لها للتفكير أو التأمل.. أضحت مدججة بآلات الاتصال اللاسلكية التي تختصر في جهازها العالم.. فمن لا يحمل هاتفا محمولا الآن؟!
لم يعد السؤال الراهن.. "من أنت"؟!
الإجابة لم تعد تعني الآخر...!
السؤال الراهن الذي يتكرر كل يوم هو "مع من تتحدث؟!"
أو"عَم تتحدث أنت؟!"
ذلك هو السؤال المعاصر المتداول في ظل حركة البشر الهائلة، التي نصاب في زحمتها بصداع لا يرحم.. لم تعد تشغلنا السياسة أو أفكارها، والديمقراطية حلم تجاوزناه قبل أن نبلغه، نشكو من قسوة الطغيان بل انقطاع نسغ الحواس الصاعد، لكننا العاجزين الآن في مجابهة طغيان الآلة.. التي شكلت الإنسانية في قالب مغاير لم يخطر على بال أحد.
المعضلة التي غفلنا التصدي لها.. ونحن نسعى لبناء عصري هي الاستلاب الفعلي لحقوق الإنسان في الوطن العربي.. استيلاب استمر منذ حقب استعمارية متوارثة، جردت الإنسانية من خصائصها الذاتية فما عاد لنا ميزان ثابت للحق الإنساني أو تقليد اجتماعي لممارسته لا يمكن للإنسان الحديث أن ينهض في عملية البناء وهو مسلوب الإرادة وطاقة هامشية معطلة.
فإن روح العصر بقدر تأسسها الجذري في المعرفة والعلم تتشكل اليوم من نزوع متحرر يخرج المرء من عزلته ويتيح له تحويل هذا الهاجس المحصور في صدره إلى طاقة إبداع قوة لجوجة ينبغي أن تأخذ مداها في جميع القنوات والصيغ.. التي تتيح للإنسان أن يشعر أنه لم يعد عبئا على أنظمته المتهالكة أو مستهدفا من قبلها.. وأنه ليس طارئا.. انه لبنة في الأمن الإنساني.
الصراع والحوار نموذجا حضارة راهنة ...
طرفا قانون المواجهة: الصراع والحوار..الذي يحكم العلاقة بين النموذج الحضاري الغربي وبين وضعنا الراهن.. القائم على أنقاض حضارات انسانية منهارة لم نرث غير مضامينها المعنوية التي لا يمكن إعادة صيغتها كفعل حضاري متجدد..
فالنموذج الغربي يصادر كل ما هو عام وانساني، ويزينه باعتباره خصوصية تميزه، ولم ينقطع عن مصادرة القيم الحضارية والإنسانية ويفرغها من محتواها..
لكن الازدواجية في النموذج الغربي تفضح ذاتها لأنها تستغل الفارق الكبير في التطور الذي يفصل الغرب عن المجتمعات الأخرى وهو يروج لمضامينه كرمز أحادي لحضارة العصر.. ومرجع مطلق لها.
ولم يخف على أحد أن النموذج الغربي ينطوي أساسا على شكل كاذب يحمل في مضامينه قسوة همجية تدفعه باتجاهين متناقضين:
الأول: شفافية إنسانية ظاهرة شكلا.
ثانيا: ممارسة البطش والسيطرة والاستبداد والاستغلال والاستعلاء.
عمق الخلل أخلاقي ... ذلك هو عمق الخلل داخل التجربة الغربية التي جعلت من التقدم المادي وسيلة لنسف الخصائص الإنسانية وضرب القيم المعنوية والروحية في العلاقات البشرية.
وإن الاتجاه الغربي نحو استخدام التقدم التكنولوجي كورقة ضغط على العالم، يعبر عن انسجامه مع نموذجه الحضاري الذي يجعل من الإنسان مجرد آلة يتحكم هو بحركتها ودورانها تبعا لأهوائه ومصالحه واتجاهاته.
يقول المفكر الأوروبي جان ماري جوينو: "لقد عرف العالم الامبريالي كيف يمارس العنف في مسافة بمزيج من ادعاء سذاجة الإنسان الطيب والوحشية الضارية، وباقترابنا من صور ما حدث نجد الموتى العراقيين الذين لم يعد يظهر عنهم سوى إحصاءات متلبسة، ونجد الحرب وكأنها لعبة من ألعاب الفيديو، فلم نكن حتى بحاجة لأن نبغضها، ونجد حكوماتنا المعنية مكرسة لتعبئة الرأي العام الغربي خلال كل فترة صراع، فنحن لم يكن لدينا استعداد للتضحية ولا للكراهية وللمرة الأولى في تاريخ الحروب نجد القادة العسكريين الذين استوعبوا درس فيتنام يولون أهمية كبيرة لتنظيم الرأي العام الشعبي والمدركات الجماعية التي لديه عن المعارك.
ويؤكد "جان ماري جوينو" الخلل الأخلاقي في الحضارة الغربية حين يشير إلى أنه تم خوض هذه الحرب كما لو أنها عملية لاستعادة النظام بواسطة المحترفين الذين مكنهم التفوق التقني الهائل من تحجيم ضمائرهم إلى حدود دنيا وسحق "الأعداء" وعقابهم.. ويختم بسؤال على قدر كبير من المنطق هو: فهل سيكون ذلك هو نهجنا المستمر فيما بعد؟!