د.أنمار الدروبي يكتب: أثر الحضارة الغربية على تطور الفكر السياسي العربي
ينظر كثير من علماء الاجتماع وعلماء النفس الاجتماعي والمفكرين وتحديدا (التيار الإسلامي) إلى التحديث والتمدن، كظواهر اجتماعية خطيرة لها أسباب وعوامل ودوافع متعددة اجتماعية ونفسية وثقافية واقتصادية ودينية وأخلاقية. ولما كانت الحداثة كما يراها بعض الفلاسفة أبنة (التنوير) والتمدن وما تعنيه المصطلحات من تفوق المناهج الجديدة، وتطور العلم والتخطيط جاز القول على هذا النحو، النظر إلى حركة التنوير الأوروبية بوصفها تجليا مبكرا للتحديث والتمدن.
لاسيما أن بعض الدارسين والفقهاء يعتبرون الحداثة من صنائع المجتمع المريض. من هنا يمكن تحديد العوامل السوسيولوجية لهذه الأفكار الرجعية، بكونها أفكار إيديولوجية متطرفة، تدل على وجود خلل فكري ومفاهيمي في منظومة القيم والمعتقدات الدينية لهذه الطبقة.
وبعبارة أخرى إن البنية الأيديولوجية لهذه الطبقة تعاني اعتلالات منهجية في الربط، ما ينبغي أن يكون عليه الواقع، وبين ما هو قائم. وقد ترتبط فكرة رفض التحديث والتنوير بفشل منظومة القيم الاجتماعية والدينية والأخلاقية في تحقيق التوازن الاجتماعي والنفسي أو ضعفه، وكذلك انعدام الحرية والاستقلالية الفردية. كما أن استجابة قسم من شرائح المجتمع لهذه الأفكار المتشددة في أكثر الأحيان قد تكون مكتسبة من البيئة والمحيط الاجتماعي، لأن سيكولوجية الإنسان وتربيته وسلوكه، وكذلك درجة قبوله أو رفضه للتجديد والتمدن مرهونة بالظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، كالحروب والمنازعات والفقر والجريمة، وبالتراث الثقافي والاجتماعي وشبكة العَلاقات الاجتماعية السائدة في المجتمع.
المؤرخ والكاتب الفرنسي (بول هازار في كتابه: أزمة الضمير الأوروبي) يرى أنه عندما بدأت إرهاصات عصر التنوير مع بروز فلاسفة على سبيل المثال لا الحصر (بيكون وديكارت)، الذين كانوا ملتزمين باستخدام العقل والحجة لتحرير الفلسفة من قيود الخرافة والدوغمائية، ومن ثم ظهر الفكر السياسي الحديث ابتداء من (مكيافيللي مرورا بـهوبز واسبينوزا وسواهم)، وضعت اللبنات الأولى للدولة الحديثة من خلال مفاهيم أبرزها (العقد الاجتماعي، سيادة القانون) لقد حاول الفلاسفة الجدد أن يأسسوا إلى مدنية تستند على فكرة الواجب، الواجبات نحو الله، والواجبات حيال الملك، مدنية تقوم على فكرة الحق، حقوق الضمير الفردي، حقوق النقد، حقوق العقل، حقوق الإنسان والمواطن.
بالمقابل هناك اتجاه يدعو إلى التحديث والتمدن مع الحفاظ على ثوابت الأمة بما لا يخالف قيمها ودينها وعاداتها، في الوقت نفسه، يعتقد هذا الرأي بأن عودة الدين إلى واقع الحياة السياسية والاجتماعية، لأسـباب موضوعية اقتصادية واجتماعية وسياسية، ساعد على استثمار الرأسمال الديني وتجنيده في الصراع السياسي، أو دفعه في اتجاه إنشاء حركات إسلامية احتجاجية سياسية المحتوى ودينية الشكل.
وتأسيسا لما تقدم، أصبح الحديث ﻋﻦ علاقة التمدن والتنوير بالأفكار الدينية المتشددة ﻳﺘﺼﻒ ﺑﻜﻮﻧﻪ اﻟﻘﻀﻴﺔ الإشكالية، الأمر الذي نحاول فيه إعادة رسم العلاقة بين البعدين ﻋﻠﻰ نحو من التمايز والاستقلالية المتبادلة، بحيث لا يتم معها تديين التنوير والمدنية ولا تحديث أو تسييس الدين. وهذا بطبيعة الحال هو أثره على تطور الفكر السياسي العربي كما جاء في آراء وأفكار المفكر والفيلسوف المصري (رفاعة الطهطاوي) كذلك في آراء وأفكار المؤرخ المصري (علي مبارك) نوجزها كالآتي:
2 / 3
أهم آراء وأفكار رفاعة الطهطاوي في تطور الفكر السياسي العربي:
يبدأ المنعطف الكبير في سيرة رفاعة الطهطاوي مع سفره إلى فرنسا وتأثره بالحضارة الغربية، وقد وضع مجمل أفكاره في مؤلفاته وكان أهمها (تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ومناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية)
حيث يرى الطهطاوي، إن الغرب صاحب الحضارة في الوقت الحاضر، ويجب على المسلمين التعلم من الأوروبيين، مع ضرورة تحديث وتطوير القوانين. كما أنه يجب أن يكون للدولة دور رئيسي في عملية التحديث والتنوير. كما احتلت الفكرة القومية حيزا كبيرا في فكر الطهطاوي، كون أن القومية مهمة جدا في بناء الدولة الحديثة في العالمين العربي والإسلامي.
وأكد الطهطاوي على ضرورة تطوير نظام الزكاة في البلاد الإسلامية ليصبح نظاما ضرائبيا حديثا نموذجيا. في الوقت نفسه، رفض الطهطاوي أن يكون الدين والأخلاق بديلا عن التقدم والتحديث والتطور المادي الاقتصادي مثل الزراعة والصناعة والتجارة، إضافة إلى أنه لا بد أن تضع أحكام الشريعة في إطار قانوني يساعد على بناء الدولة الحديثة.
أهم آراء وأفكار علي مبارك في تطور الفكر السياسي العربي:
يعد علي مبارك أحد أهم مؤسسي أركان النهضة في منتصف القرن التاسع عشر، ومن أهم وأبرز آراء وأفكار علي مبارك كانت في سلسلة مؤلفاته (الخطط التوفيقية) وقد تأثر علي مبارك بالحضارة الغربية وحاول أن يعقد مقارنة بين الحضارات في الشرق والغرب، ونقل التطور الذي وصلت إليه أوروبا، لكن في الوقت نفسه دعى إلى الحفاظ على ثوابت الأمة والرجوع إلى الأصول الشرعية المتمثلة في القرآن والسُنة. مع التطلع إلى استخدام كل ما هو جديد وحديث يفيد الأمة بما لا يخالف قيمها ودينها وعاداتها. أكد علي مبارك على أن للإسلام فضل كبير على البشرية، وأن العرب كانوا سباقين في معرفتهم للعلوم المختلفة، إضافة إلى أن الإسلام كان سببا في إحياء كثيرا من الفنون والصنائع بحسب رأيه.
من هنا حاول علي مبارك التوفيق بين الأرث الثقافي للأمة الإسلامية وبين الحضارة الغربية الوافدة، وقد انحاز إلى فكرة تحرير المرأة الشرقية وتطويرها في بعض القضايا، لكنه كان مترددا في بعض القضايا الأخرى، كذلك أبدى أعجابه بالمرأة الأوروبية. في السياق ذاته يرى علي مبارك ضرورة الإيمان بالعلم وتطبيقاته، لأن العلم هو السبيل الوحيد لتحقيق نهضة المجتمع وقيمة عليا في عصر التكنلوجيا.