د.تحسين الشيخلي يكتب: خواطر كتبت في باص النقل العام.. ( مجتمع الشاشات)
هذا المساء، وفي طريق عودتي إلى البيت، أستقليت باص النقل العام.. في الباص حيث الكل يجلس بهدوء يسبح في عالمه الخاص، الكل بلا استثناء ينظر الى هاتفه المحمول، وان كانت هذه الظاهرة تستثني كبار السن سابقا، لكن يبدو ان الجميع انجرف اليها.. شاشات هي التي تجلس بجانبي في الباص، و شاشة اخرى كبيرة تراقبنا و تنقل صورنا الى جهة حتما تمتلك شاشة اكبر ..!!!
يبدو انني الوحيد الشاذ عن المجموعة، انا الذي امسك قلما و أسطر كلماتي على دفتر ملاحظات ..!
حياتنا الراهنة لا تخلو من الشاشات، وأنها مرتبطة بنظام رقمي يتجاوز ذاته بسرعة فائقة، فالمدينة مراقبة بمنظومة من الكاميرات الرقمية التي تسجل تفاصيل حركاتها وسكناتها على مدار اليوم، وهي مرتبطة في مجملها بسلسلة من الشاشات الكبيرة والصغيرة.
فكل شيء صار يمر عبر الشاشة، ولا يفهم إلا داخلها، لأن الإنسان ألفها كبقية الأشياء الأخرى التي تحيط به وتحاصره، خاصة وأنها يسرت عليه الحياة، وقلصت التعب، ونمت مدخوله الاقتصادي، وفتحت أمامه آفاقاً أرحب، ما كان يحلم بالتعرف عليها واكتشافها لولا انتشار الأجهزة الرقمية.
لم يعد الإنسان في عصرنا هذا حاملاً كتاباً أو قنينة ماء، وإنما استعاض عن ذلك بهاتف رقمي ذكي، وآلة تصوير رقمية، وسماعة رقمية، وقارئ لوحي متعدد الاختصاصات...، فأصبح يكشف عن كل تفاصيله، العادية والحميمية، عبر الصورة والصوت، على شبكات التواصل الاجتماعي وشبكة اليوتيوب و الانستغرام و السناب تشات ،. هكذا، انتقل الإنسان من كتم خصوصيته إلى إعلانها، ومن التستر على المعلومات الشخصية إلى تقاسمها.
فهل نحن أمام حالة ترفيه عادية أم استعراض مرضي مزمن؟
هل نحن أمام إنسان عاشق للمعرفة أم تجاه أناس بصاصين يتلهفون إلى رؤية الشاذ وغير العادي؟
فالتحكم في الحياة العادية بات يمر بشكل أوتوماتيكي، واع أو غير واع، عبر أجهزة التحكم وعبر الشاشات، بل إن الحياة شاشة.. نعرفها عبر الشاشة، ونقدمها عبر الشاشة، ولا يمكن أن نتصور الجديد أو نطلع على القديم إلا عبر وساطتها.
إلى أين يسير الإنسان اليوم؟
ما هي تمثلاتنا للعالم من خلال المنظومات الرقمية المتصلة بالشاشات؟
هل يستطيع الإنسان، اليوم، التخلي عن أيقوناته الإلكترونية الجديدة أم أنها صارت جزءاً لا يتجزأ من واقعه؟
هل استطاعت الشاشة أن تلغي كل سندات التواصل التقليدية؟
لماذا صار كل شيء متاحاً على الشاشة؟
هل الشاشة مرآتنا اليوم؟ .. نعم فالفتاة التي امامي تصلح زينتها امام الشاشة و ليس المرآة !!!
والحاصل أنه لم يعد جل الناس يعيشون الحياة بعفوية وتلقائية، بل صار سوادهم الأعظم، وخصوصاً الكائنات الرقمية، يهمه بالدرجة الأولى نشر أفعاله أو نشر حياته المفتعلة بغرض استعراضها على مواقع التواصل الاجتماعي، وبذلك ضاعت الحميمية، وانفرطت عرى الثقة، كأنه بات لكل شخص تقريباً أقنعة يتوهم من خلالها الحياة أو يوهم الناس بها.
لقد ساهمت الشاشات في توهيم الحياة وافتعالها، وتم القضاء على النسخة الأصلية للأشياء، وأضحى الزيف عقيدة الناس وجوهر الفعل.
حياتنا تأسرها الشاشات، وتظل رهينة للطبيعة المتشظية والملحة للانترنت، وما زلنا نتذبذب بين لحظة إطفاء الجهاز وتشغيله.
مات التأمل والتعالي بفعل الشاشات التي روضت الناس بفعل استعمالاتها، إذ لم نعد نرى العالم بشكل ذاتي، وإنما كما أراده لنا صناع ما يروج حولنا. لم يعد الإنسان مبدعاً بالمعنى الحقيقي للكلمة، وتحول إلى مجرد مسخ بفعل فقدانه لهويته الخاصة. صار كل متأمل منعزلاً، لأن الأشباح كثر تمسك شاشاتها حوله كنسخ مزورة تغمر الفضاء الرقمي وتكتسحه.