د. عبد الحفيظ محبوب يكتب: هل هناك قلق من سرعة تحرك الرياض؟
تتجه السعودية نحو استثمار تراجع هيمنة القطب الأوحد، خصوصا عندما أخطأت الولايات المتحدة عندما أرادت مواجهة روسيا في أوكرانيا والصين في تايوان في آن واحدة، لكن الصين لم تعطي الولايات المتحدة مبتغاها، بل استثمرت الحرب الروسية في أوكرانيا كما استثمرتها السعودية أيضا والتقت المصالح الاستراتيجية والاقتصادية بين الصين والسعودية، فشكلا تحالفا اقتصاديا متينا ينطلق نحو أفريقيا قارة المستقبل ونحو أوروبا.
عزز من قدرة السعودية قدرتها على رفض تسيس ملف النفط، فبعد تخفيض مليوني برميل يوميا في أكتوبر اتجهت إلى تخفيض طوعي للنفط إلى نهاية 2023 باتفاق ست دول عربية ودولتان غير عربية، بعدما فشل تسقيف الغاز والنفط الروسي، الذي يستهدف نفط أوبك بلس في حقيقته.
كان هدف الغرب تقليم أظافر بوتين روسيا، وهدف أمريكا استعادة قوتها الاقتصادية على حساب أوروبا لتعزيز تنافسيتها الصناعية في الصناعات المتعلقة بالتغيرات المناخية، وبشكل خاص في السيارات الكهربائية والصناعات الخضراء عبر تقديم معونات سمي بقانون خفض التضخم لتشجيع الانتقال إلى الطاقة النظيفة عبر دعم المنتجات المصنعة في الولايات المتحدة نتج عن ذلك توترات تجارية عبر الأطلسي، وسط قلق أوروبي من أن تضر تلك الخطوة صنع في أميركا بقطاعي السيارات في أوروبا.
ما جعل أوروبا تضطر إلى تبني مجموعة حوافز خاصة مثل خطة الصفقة الخضراء الصناعية لتعزيز القطاع الناشئ، وفي نفس الوقت يقلق الولايات المتحدة كيفية الرد على السياسات التجارية الحازمة للصين، وهي تحاول إقناع أوروبا بتبني موقف أكثر صرامة حيال الصين، رغم الروابط التجارية التي يقيمها العملاق الآسيوي خصوصا مع ألمانيا، لكن المفوضية الأوروبية ألمحت إلى أن الأوروبيين لديهم رؤية محددة للطريقة التي يريدون من خلالها إبقاء العلاقات مع الصين.
كذلك السعودية قطعت شوطا كبيرا في سياق ترجمة إستراتيجيتها التوسعية للتكرير حين نقلت طموحها في هذه الصناعة إلى آفاق أوسع مع تمركزها في السوق الصينية أكبر مستهلك للمشتقات النفطية في العالم، فأعلنت عن صفقتين كبيرتين لتكرير النفط والبتروكيماويات في ثاني أكبر اقتصاد في العالم ضمن سياق خططها لتوسيع أعمالها في قطاع المشتقات النفطية والمصافي.
بعد توقيع السعودية الاتفاق الثلاثي في بكين بينها وبين إيران وهو اتفاق غير متوقع لدى عدد كبير من الدول الإقليمية والغربية في 10 مارس 2023 خصوصا وأن هذا الاتفاق سيمتد إلى عدد من الملفات الإقليمية في العراق وسوريا ولبنان واليمن وهو ما يشير على ملامح قيام نظام عالمي جديد أو على الأقل بزوغ تكتل جيوسياسي خصوصا بعد انضمام السعودية إلى منظمة شنغهاي يمتد من الصين عبر السعودية ودول الخليج وإيران يعبر إلى أفريقيا وأوروبا لتشكيل محور هلالي غير قادرة الولايات المتحدة على مواجهته حتى لو أرادت دعم أزمة جديدة على أبواب أوروبا بين أذربيجان وأرمينيا.
وهذا لا يعني تخلي السعودية عن العلاقة مع الولايات المتحدة وقد شخصت سفيرة السعودية في أمريكا في 25 أكتوبر 2022 في مقابلة مع مذيعة سي إن إن بيكي إندرسون أقرت بوجود خلاف بين البلدين إلا أنها قالت إنه ليس خلافا سياسيا وإنما اقتصادي بحت، وما يؤكد صحة تصريح سفيرة السعودية الأميرة ريما صفقة الطائرات التي أبرمت مع شركة بوينغ بعدد 121 طائرة لصالح الشركة الجديدة طيران الرياض والأخرى الخطوط الجوية السعودية بقيمة إجمالية 37 مليار دولار.
هناك بناء هيكل قوة جديدة تقوده الصين والسعودية، وستشترك فيه أيضا أوروبا، ليس كمحور معادي لمحور الولايات المتحدة، ولكنه بتركيبة جديدة وهيكل جديد بمفهوم وأداء له أسس أخلاقية يفسح المجال أمام قيادة أخرى أكثر ترابطا وانسجاما وأكثر موثوقية، مقابل الهيمنة الغربية التي تعاني من هزات سلوكية وقيمية بعدما اختلطت معاييرها إلى حد كبير فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمساواة وحرية التجارة وحماية الأصول التي لم تكن كذلك.
فأمريكا بعد جائحة كورونا وأزمة سلاسل الإمداد تطالب بالأقلمة والصناعات المحلية، مثل اجتهاد مجموعة العمل الأوروبية تبحث عن مصادرة الأصول الروسية، وهو ما يضرب في الصميم موثوقية قيادتها العالمية لمبادئ القيم وحقوق الإنسان، وهو ما يمثل انسلاخا فعليا من القيم التي طالما يتشدق بها الغرب.
في ظل فقدان الغرب البوصلة حتى التيه الاستراتيجي مقابل امتلاك الصين والسعودية كل المقومات الداخلية ما توافر لها إقليميا ودوليا من المعطيات ما يمكنهما أن يصبحا بوابة السيطرة العالمية.