داليا الحديدي تكتب: خبراء صناعة الهيبة
هذا المقال مستوحى من خطبة للدكتور عدنان ابراهيم ومن عبارة خالدة للدكتور أحمد خالد توفيق...
أكم من مواقف جرحت صبانا فكشفت لنا قُرَح التضليل في أغوار بعض نفوس البشر الآسنة.
لليوم أذكر تلك الرواية التي سمعتها في صباي من سيدة سبعينية روت بأسى كيف تكفل زوجها بكافة مصروفات زواج ابنها فيما ضنّ عليها بشراء خاتم ماسيّ أسوة بكنّاتها رغم الحاحها عليه وعلا صوتها لتشرح كيف أنها تفرصت الفرص للتمكن في عام واحد من إدخار مبلغًا – من مصروف البيت- لشراء خاتم ماسي أسوة بكنّاتها.
مرت شهور والتقيت بالهانم ذاتها في محفل ضُمّ هذه المرة صفوة المجتمع من"أتاربته وأباظيته"، فإذا بها تَزُج برواية مختلفة للخاتم الماسيّ، وقد خضعت بالقول ونطقت بنبرٍ أنثويٍ رقيقٍ تختلط فيه الباء العربية بنظيرتها اللاتينية: "پنات، زوجي أهداني هذا "السوليتير" ليشبكني من جديد بمناسبة عيد زواجنا".
يوم أرادت أن تبدو قوية، استعانت برفع الصوت ورسمت رتوش شخصيتها بريشة المناضلة لتبدو ثورية لا ترضى بالضَيم على نفسها.
على أنها حين ارتأت لعب دور الأنثى المرغوبة، استعانت بخفض صوتها كما ونمقته وتصابت بإستحياء لتبدو كزوجة يتودد إليها زوجها بالقرابين!
ثم أنها لم تأبه للحضور الذين لاحظوا التحديثات التي طرأت بين الروايتين!
ولكم صادفت سيدات مُدّعيات للانهاك ومصدرات لصورة الشخصيات المستهلكة على أنه متى قيل لهن:
"هيا شوبينج" أو "هَلُم سفرية"، أو "دعوة ظهور ببرنامج تلفزيوني"، هنا يقفزن بقوة 5000 فولت ويتحولن لنساء خارقات.
وأذكر واقعة مرض والدتي التي أصيبت منذ سنوات بعيدة بورم في المخ، وفي ليلة اشتد عليها الألم بمنتصف الليل وكنت وحدي معها بالمشف،ى فاستدعيت الطبيب المناوب وكان شابًا قصيرًا، نحيلًا.
ولا أعلم كيف صدر مني هذا السؤال: "هل حضرتك طبيب أطفال أم جراح مخ وأعصاب"؟
فامتعض الرجل وذهب مُغاضبًا كما ذهبت معه أدراج الرياح كل جهوده في رسم مظاهر الهيبة على محياه، فالكلام بالقطارة والخطوة المتثاقلة والحركات المدروسة، والنظرات المحدقة واللفتات المفتعلة، البطيئة التي يعلوها الكبر مع نبرة الصوت الخنِفة كل هذا كان محاطًا بمعطف أبيض، مكوي ياقته بمسحوق النشا ثم تأتي طالبة غريرة مثلي لتتعامى عن هذه التجليات الصارخة وتسأله مثل هذا السؤال!
لم أكن استهين به، فأنا بقمة احتياجي لدعمه لوالدتي، ولا كنت أدرك -في باكورة عمري هذا- أن هكذا سؤال يطعن الجراحين في مقتل بمشرط تلم..
هذه المواقف وأخرى جعلتني أدرك أن النجاح الزائف ليس في الطريقة الحقيقية التي ترى بها نفسك لكن بحسب الأسلوب الزائف الذي تصدر به صورتك للأخرين.
إن سر النجاح الزائف في الحياة كما وصفه الدكتور أحمد خالد توفيق "ليس أن تكون بل أن تبدو".
■ ■ ■
أما أنا فاقول
ليس أن تكون ناجحًا بل أن تبدو مطلوبًا
ليس أن تكون خبيرًا بل أن تبدو عالمًا
ليس أن تكون حرًا بل أن تبدو منطلقًا
ليس أن تكون جراح مخ وأعصاب، بل " ألا " تبدو طبيب أطفال
ليس أن تكون خيرًا بل أن تبدو نبيلًا
ليس أن تكون عطوفًا بل أن تبدو منكسرًا
ليس أن تكون مثاليًا بل أن تبدو قريبًا من الكمال
ليس أن تكون جميلًا بل أن تبدو فاتنًا
ليس أن تكون قويًا بل أن تبدو صلبًا
ليس أن تكون ذكيًا بل أن تبدو مفتوح العينين، حاذقًا، المعيًا، اريبًا، لبيبًا ولوذعيًا
ليس أن يكون محتواك أنيقًا، مُثقلًا، لكن أن يكون مظهرك براقًا، مترفًا
ليس أن تكون نزيهًا، بل أن تبدو عفيفًا
ليس أن تكون متحضرًا، لكن أن تبدو مدنيًا
ولو كان قاعك قُح ريفيًا
وقناعاتك مصكوكًة بالبداوة
وفكرك مُسَمَدًا بالضيق
وأفقك مُسَمَمًا بالإنغلاق
وقلبك مُسَبَخًا بالصد
وثوابتك مُسَمَرًة بالتماثل بالموروث
ليس أن تكون شخصًا مُهًما بل أن تبدو واسع العلاقات، غير قادر على إتمام محادثة، مشغولًا، فتنطبع عنك العظمة، الأبهة والأهمية.
ليس أن تكون مثقفًا، مفكراً، عميقًا، بل أن تبدو ملمًا، مطلعًا، موسوعيًا، قوالًا، عروبًا، تدلي بدلاءك مها كنت اعتسافيًا، اعتباطيًا أو محض تويفهًا.
ليس أن تكون بطلًا بل أن تبدو مغوارًا، فارسًا، هُمامًا، دونكيخوتيًا.
ليس أن تكون غنيًا بل أن تبدو عليك مظاهر الثراء، ومنها أحيانًا أن تبدو لا مباليًا بالبضائع الثمينة بل بالنادرة، فتتظاهر بالبساطة المفرطة لتبدو مميزًا عن سائر الأثرياء.
ليس أن تكون خلوقًا بل أن تبدو مهذبًا، خدومًا، عرابًا،
مهما أسهمت بسهام همزك
وطعنات لمزك
وطلقات استهزائك
ولدغات سخريتك
واسافين تجريحك
ومناورات تسفيهك
وعسعسات فضولك
وكمائن حشريتك
وتشويحات تهميشك
ونبر استعلائك عمن سواك
..
ليس أن تكون طيبًا بل قد تضمر شرًا، لكنك تبدو منكسرًا، خاضعًا، وديعًا فتُعَنوَن أليفًا وطيبًا.
ليس أن تكون عاقلًا، بل أن تبدو صموتًا، رزينًا تعلوك امارات الحكمة وتكسوك دُثُر الكبار وبشت الشيوخ وسمت الكهنة.
ليس أن تكون فصيحًا بل أن تبدو حصيفًا، لبقًا ومفوهًا، مفرداتك ناصعة وعباراتك لامعة ومنطوقك بمنجاة من اللثغة، مقلقلًا لقسمك، معطشًا لجيمك ولو كنت مجوعًا لمن يحتاجك ولو كانت معانيك خواء ولو كان فكرك محض هباء.
ليس أن تكون واثقًا بل أن تمشى ثابت الخطوة، متثاقلًا، متجاهلاً، غير مكترثًا، فتبدو خبيرًا ببواطن الأمور.
ليس أن تكون أنانياً بل أن تتأني في استخدام "أنا"، أما لو أفرطَّ فيها، فلا عليك، لكن أكثر من الاستعاذة بالله من قولة "أنا" جهارًا، نهارًا، عشارًا، مهما اضمرتها بفعالها في نفسك، مرارًا، وتكرارًا.
ليس أن تكون قنوعًا بل أن تبدو مستكفيًا، راضيًا، زاهدًا، روميًا، تبريزيًا، متصوفًا، وإن لم تكتف بمكانة الأخ الأكبر بل ارتضيت بسحب البساط من تحت أقدام أباك الذي خرج على المعاش أو أمك الضعيفة، المهمشة، المنبوذة وبت تؤمن باستحقاقك لمكانتهما، فتقبل تفضيل أخوتك لك عنهما، وترى في ذلك ثمنًا لتضحياتك ونتاجًا طبيعيًا لعطاءاتك، بل وتروج لسفه والدك وتروي وتتسامر عن نوادر مصائب والدتك تلك التي "عملت عمايل" كما صرت لا يعنيك أن يُدانا أحدهما أوكليهما أحياء أوأموات في حضرتك، كونك ارتضيت أن تحل محلهما مكانًة واكبارً أيها التبريزي، الرومي، الزاهد، الزائف.
ليس أن تكون محبوبًا بل أن تبدو محاطًا، مع يقينك أن محيطك هذا جاهلًا بجرائمك يوم هددت والديك بالاتصال بمستشفى الأمراض العقلية لتخيفهما من ممرضي المشفى وصعقات الكهرباء المؤلمة ليكفا عن عصبيتهما ولم ترحمهما حتى حينما هددا بالإنتحار!
ليس أن تكون شجاعًا، مصاولًا، مغوارًا، بل أن تبدو للناس جسورًا، باسلًا، ولو كنت رعديدًا، خوارًا، تعجز عن الدفاع عن عرض أبناءك لو انتهك من ذو منصب كبير ولا حتى تصد عن كرامتهم لو أهينوا من سائق صغير.
ليس أن تكون حييًا بل أن تبدو للناس خجولًا، بحمرة زائفة ولو كنت صفيقًا، ماجنًا، متواقحًا، صلفًا سيما مع أهلك، خدمك ومن طالتهم يداك.
ليس أن تكون نقيًا بل قد تكون من الغيارى، الحسدة على أنك تبدو للناس طفوليًا، ملائكيًا، طهورًا فيما تشتاط غيظًا لو بُعث لأخيك ببرقية عزاء، لم تبعث بإسمك،
تثور لو قام أحدهما بشراء كعكة من حانوت بعينه بُعيد استشارة زميلك دون استشارة عظمتك،
تغلي ويفور التنور لو جاء الترحيب بك مقتصرًا على أهلًا، فيما رُحّب بصديقك بأهلا مع إضافة السهلاً!
..
ليس أن تكون مهيباً بل أن تبدو فخيمًا، رصينًا، رزينًا، جليلًا، مُفتخرًا، مُعظمًا، غائبًا، شاهقًا، قصيًا، بعيد المنال ترد على الجماهير من عليّ بإشارة تلويح ملكية ولا ترضى سوى بأدوار النجم الأوحد الذي يصل متأخرًا لتُصَعَر له الأبصار.
ليس أن تكون سهلاً بل أن تبدو موطئًا للأكناف، كمن نراه حريصًا على توسيع موطئ قدم لزميله بالمسجد أو كمن يمشي حاضنًا سائقه تحت جناحيه لإظهار تعاطفه مع حقوق المهمشين في المجتمع على أنه يصهين صهينة صهيونية عن حقوق شقيقاته ولهن عقود بالمحاكم للمطالبة بنصيبهن من ميراثهن كونه وضع يده عليه ورسخ أقدامه وأقدام أبناؤه فيه.
ليس أن تكون كريمًا بل أن تبدو جوادًا تتيه بخيلاء لتخصيصك لأنصاف الجنيهات، تمنحها للسائلين لإسترضاء ضميرك بمسكنات شلنات الفضة على أنك من أكابر من يمنعون الماعون بدعوى أن الصيف خلص ولا داعي لشراء مكيف لفلان المحتاج، كما انك من هؤلاء المتهربين من دفع مهر زوجاتهم أو نفقة مطلقاتهم أو حقوق يمكن التلاعب بها أو التغافل عنها أو زكاة من الأريح التهرب منها كونها "هبرة" كبيرة، سيما بعد أن نبّشت عن شيخ فصل لك فتوى على قياسات خصر ضلالاتك!
ليس أن تكون مُتدينًا بل أن تروج لصيامك، ولتُعلن عن قيامك، ولتُسمع من حولك "وسوسوات" تسبيحاتك ولتنوه عن وردك ولتلتقط صوراً للإشهار عن عطاؤك ولتنبئ عن تمظهرات التزامك مهما كنت كويفراً، صنديدًا تبارز رب العالمين على فرس المعاصي أمام سبوحات وجهه جل وعلا، لكن خفية عن الناس وإن جمحت خسائسك، وتشرهت مطامعك فبخلت بزكاة مصاغك كونك وجدت مخرجاً للإفلات من الدفع (الشيخ قال حلال)
أو إن احوجت مَعيل لك بإدعائك العوز.
أو إن احرجت فقير لتستقرض ماله بسيف الحياء
أو أن تَغُلّ بحسام الإحراج
أو أن تطعن بخنجر التشهير
أو أن تتوارى عن أداء دورك بدرع المسكنة
او أن تتقن حياكة شباكك لإستنطاق فتوى للفكاك من دفع مديونيتك
أو أن تُسقط أخاك في غياهب بئر مصارع الحياة وحده ليلتقطه بعض السيارة في دروب المسير، اعانوه أم تركوه سيان لديك (أو لربما يبلغ بك الصلف أن توهمه أن نجاته بسبب دعاواتك له)، مع تهاونك التام في معاونته واكتفاءك بالتواصل الشكلي معه كونك بعته بدراهم معدودة وكنت فيه من الزاهدين، ثم تتهمه بأنه لا يأمنك ولا يثق فيك ولا يُكبرك رُغم أن حتى اتصالك به يكون أحد أهدافه تمرير أخبار أو إستنطاقه للتقصى عن معلومات يعنيك تمريرها أو معرفتها فيما تتخلى عنه في النوائب على أنك تنتوى "أن تستغفر لاحقًا وتكن من الصالحين"
ليس أن تكون ذاتك الحقيقية، بل ذاتك الخيالية التي تختال بها على الأخرين بل لربما على نفسك، هذه الذات الخيالية المصنوعة من مئات اللبِن كما وصفها العلامة "عدنان إبراهيم" لبِنة المال، لبِنة الجمال، إلخ
وكلها حجارة خيالية تؤسس هيكلك الوهمي الواهي، بأهوائه العاصفة المفرقة التي وصفها "الحلاج" مخاطبًا رب العالمين بالتالي:
كانت لقلبي أهواء مُفرقة
فاستجمعت مذ رأتك العين أهوائي
وصار يحسدني من كنت أحسده
وصرت مولى الورى مذ صرت مولائي
تركت للناس دنياهم ودينهم
شُغلًا بحُبِك يا ديني ودنيائي
..
وستحقق لك هذه الهيبة الزائفة وهذا الهيكل الخيالي نجاحًا زائفًا لكنه- أبداً- ليس نجاحًا ببراعة عصا الكليم تلك التي تلقف ما يؤفكون
وفي نهاية المطاف، ستتربع أنت نفسك، وبنفسك على عرش من خدعتهم
ولهذا سطر الرومي هذه الأبيات ويكأنه كتبها لإيقاظ الواهمين من خبراء فن صناعة الهيبة
اللهم إني سجين قبري بدني
هلم يا اسرافيل فانفخ في صوري
من أجلي
حتى توقظني
لا حيا الله خبراء فن صناعة الهيبة ولا أيقظهم من سباتهم وليتمتعوا وليعمهون