مجلس التحرير: مجموعة صحفيين عرب
الموقع قدم أوراق اعتماده
الى نقابة الصحفيين العراقيين

علي أركان يكتب: حمورابي شمس العدالة البابلية

نشر
الأمصار

يعود أصل مدينة بابل الواقعة على ذراع نهر الفرات إلى الأزمنة القديمة وفي عهد الامبراطورية الاكادية تحولت هذه المدينة المذكورة التي كانت ضيعة مأهولة بالاقوام السامية إلى مدينة محصنة.

واستقرت فيها بعد سقوط إمبراطورية أور الثالثة ( 2004 قبل الميلاد) سلالة امورية وجعلت منها مملكة صغيرة وانطلقت هذه المدينة لتزدهر تحت حكم حمورابي ( ١٧٩٢ – ١٧٥٠ قبل الميلاد) الذي كان الملك السادس من سلالة ملوك الدولة البابلية الأولى

تماثيل حمورابي

شكل حكم حمورابي رابطاً بين العالم السومري القديم والعالم السامي الجديد
ونستطيع أن نرسم صورة لهذا الملك بفضل العثور على تماثيل صغيرة تبرز ملامحه والتي تسحر الناظر في متحف اللوفر وفي الكتب.

ومن بين هذه التماثيل هو تمثال اهدي من قبل أحد سكان مدينة لارسا إلى الإله مارتو وهو مثبت على قاعدة متينة في اللوفر ويظهر هذا التمثال الصغير الملك حمورابي وهو يؤدي الصلاة راكعا على ركبتيه بمرونة مدهشة أمام صورة الاله جالسا على عرشه ويده اليمنى مرفوعة أمام فمه ويبدو الملك مرتديا قبعة واسعة الحواشي وثوبا مزخرفا بالبلوط ووجهة مزين بلحية قصيرة ويدية مزركشتين بصفائح من أوراق الذهب والفضة وتلوح في هذا التمثال عينا الملك مفرغة من حجريهما ومرصعة بقوقعة قيمة وبحجر اللازورد الثمين

فتوحات حمورابي

حدث ذلك في حوالي العام ١٧٩٢ قبل الميلاد عندما ورث حمورابي مملكة متواضعة وهو في سن الخامسة والعشرين من والده سين ماباليت فتسلم مقاليد الحكم في بابل وفي عام ١٧٨٧ ق.م استل حمورابي الذي يمتلك رغبه في توسيع اراضية سيفه من غمده وغزا مدينتي اوروك و ايسن السومرية وبعد هذا الفتح بقي الوضع هادئا وانتظر بصبر قدوم اللحظة المناسبة للتحرك من جديد
تدهورت العلاقات مع مملكة لارسا الواقعة في الجنوب لأنها استولت على مدينتي اوروك و ايسن الخاضعتين له مما ادى إلى التحرك لشن الحرب على لارسا وتمكن من وضع نهاية حاسمة لاستقلال هذه المملكة وضمها لبابل.

واصل حمورابي فتوحاته إلى الشمال والشمال الغربي وهزم بدون رحمه أصدقاؤه وحلفاؤه القدامى الواحد بعد الآخر واخضع مدينة ماري في الغرب عام 1759ق.م ثم استولى على آشور واشنونا عام ١٧٥٧ ق.م.

بعد ذلك تم توحيد الجزء الأكبر من بلاد الرافدين تحت صولجان حمورابي المنتصر الذي عزا نجاحاته إلى الإله مردوخ حيث أزاح حمورابي شيئاً فشيئاً انليل اله السومريين وأصبح مردوخ الاله الأول في بابل وبلاد الرافدين
منذئذ بذل عاهل بابل جهدا كبيرا لتوطيد متانة سلطته ولتعزيز قدرات امبراطوريته الاقتصادية التي شيدها في مدة لم تتجاوز العشر سنوات وجعلها إمبراطورية مركزية النظام كما سعى إلى خلق شعور وطني لدى رعاياه وفي عهده وضع حكاماً لإدارة مدينتي لارسا ونيبور لقد كانت المدن تخضع لإدارة ولاة تابعين له وكان موظفو الدولة يعملون على جباية الضرائب والرسوم ويراقبون التجارة وكان مسؤولو وسائل النقل يربطون بابل العاصمة بالمقاطعات البعيدة عنها.

كما قام حمورابي بتطوير بابل وشيد فيها اسواراً وبنى وجمل المعابد وحفر قنوات الري وجعل مدينته عاصمة كبرى ومركزاً دينياً وثقافياً وأصبحت المدينة بفضل موقعها المميز في وسط البلاد مركزاً تجارياً مزدهراً وسيطرت على الطريق الواصل بين الصين والهند ومنطقة البحر الأبيض المتوسط إذ كان يمر بآسيا الوسطى وبلاد فارس وبلاد الرافدين

مسلة حمورابي الشهيرة

أخذت الكتابة منذ مدة طويلة أهمية كبرى في بلاد الرافدين وكانت وسيلة للتاليف والتحرير وسابقا كتبت قوانين اورنمو واشنونا ولبت عشتار بالخط المسماري.

أمر حمورابي أصحاب الخبرة الواسعة في مجال الكتابة بنقش قانون حمورابي على مسلة عالية مخروطية الشكل مصنوعة من حجر البازلت الأسود ويبلغ ارتفاعها مترين وخمسة وعشرين سنتيمترا.

عثر علماء الآثار الفرنسيين عام ١٩٠١ على مسلة حمورابي المشهورة في مدينة سوسة التي كان العيلاميون قد أخذوها غنيمة من غنائم الحرب حوالي ١٢٠٠ قبل الميلاد وهي الآن منصوبة في قلب متحف اللوفر

قانون حمورابي

لم يكن قانون حمورابي بصيغته الأصلية وبشكله ومحتواه قانونا مدنياً مثل قانون نابليون بونابرت مثلاً

بل هو عبارة عن مجموعة من الأحكام العدلية متكاملة إلى حد ما ومنظمة على طريقة لوائح قانونية أسبق مثل قانون اورنمو الذي أراد أن يحاكي نظام العالم
كانت بعض المواد تجيب عن حالات معينة صادرة سابقآ أو مأخوذة من الاعراف والتقاليد السائدة حينها
وقد قام الباحثون بتقسيم قانون حمورابي إلى ٢٨٢ مادة حررت بالخط المسماري واللغة الاكادية
رسم هذا القانون لوحة للمجتمع البابلي وأدى دوراً هاماً لتنظيم الحياة اليومية
وكان المجتمع ينقسم في ذلك الوقت إلى ثلاث طبقات

الاويلو – الاحرار وهم المتمتعين بكامل الحقوق مثل القادة والأطباء والعسكر
الموشكينو – التابعون وهم الذين يتمتعون ببعض الامتيازات ولكن يجب عليهم إنجاز الخدمات والأعمال المرهقة للدولة

الوردو – العبيد ويأتي ترتيبهم في أسفل السلم الاجتماعي وهم أسرى الحرب والافراد العاجزون عن تسديد ديونهم
وكان لديهم أمل بالخروج من هذه الحالة إذ كانوا يتمتعون بالحقوق وبشخصية قانونية وكان من الممكن للعبيد أن يتزوج من ابنة رجل حر وأن يجب أطفالاً أحراراً ومن حقه أن يقتني الأملاك وأن يتحرر من العبودية وقد يتعرض العبيد في حالة الفرار الى عقوبات قاسية ومنها تنفيذ عقوبة الموت بحقه

وكان هذا القانون يشجع النشاط التجاري ويعطي أهمية كبيرة للشاهد والعقد
فنرى في المادة الخامسة والستون 
" إذا أقدم تاجر قرضاً من الشعير والفضة بدون شهود أو عقد فسوف يخسر كل شيء قد أعطاه 

وكانت المواد الخاصة بالعائلة التي تشكل أساس المجتمع العراقي القديم تعالج مواضيع متعددة كالارث والتبني وتتناول أيضا وضع الزوجة كونها تملك شخصية شرعية باعتبارها مواطنة وكان يسمح بتلقي هبه تسجلها باسمها بموجب عقد وبالسهر على مصالحها بعد وفاة زوجها
فنرى في المادة المائة والخمسون

" إذا أعطى رجل زوجته أرض أو بستان او منزل أو أثاث عبر وثيقة مختومة بعد وفاته لأ يستطيع أولاده يطالبوا بها
ويمكن للأم أن نترك ورثها لأولادها لكنها لا يمكن تتركه لغريب "

وكان الاغتصاب يخضع إلى عقوبة شديدة وهي الموت
والخيانة الزوجية محظورة للطرفين فالرجل الخائن يعاقب بالنفي والمرأة قد تصل إلى عقوبة الموت
وارتكاب زنا المحارم بين الام والابن على سبيل المثال ممنوعة ويعاقب عليها الطرفين بالموت 
وكانت بعض مواد القانون تعالج القضايا المتعلقة بالاطباء والعسكر والفلاحين والعبيد

وفي القانون الجزائي صرح حمورابي أنه لا يمكن إدانة شخص من دون أدلة إذ كان همه أن يكشف نية الجاني وقد وضع عقوبات تتناسب مع الذنوب المرتكبة لكنها كانت تتباين بحسب مقام الضحية واعترف القانون بالظروف المخففة للحكم كما أكد مفهوماً خاصاً لتعويض الأضرار
وقد سن حمورابي قانون العقوبة بالمثل أو بشكل صح مبدأ ألسن بالسن والعين بالعين الذي أخذت شريعة اليهود عن شريعة حمورابي
فنرى ذلك في المادة السابعة والتسعون بعد المئة
"إذا قلع أحد عين رجل حر فسوف تقلع عينه"
وكانت العقوبات تطبق أيضاً على حوادث عائدة إلى الأهمال
كما في المادة التاسعة والعشرون بعد المئتين
"اذا عمر البناء بيتاً لأحد الأشخاص ولم يدعم بناءه ثم تهدم هذا البيت ومات صاحب البيت فيعاقب البناء بالموت"
قدم حمورابي نفسه في ديباجة قانونه المحرر على شكل انشودة تمجده وتحيي ذكراه لانه الراعي الصالح فهو الملك الذي وفر لأهل بلاد الرافدين السلام ومياه الرخاء وهو الذي أظهر اهتماماً بالانصاف والعدالة فبلغ منشأ الحكمة
فيقول
"الآلهة العظيمة هي التي سمتني وأنا وحدي الراعي المنقذ ذو الصولجان القويم يمتد ظلي الملائم على مدينتي وقد ضممت إلى صدري شعب سومر وأكد وبفضل حمايتي لهم عرفوا رغد العيش إذ لم اتوانَ عن حكمهم في جو من السلام وبحكمتي حميتهم"

طلب حمورابي من الملوك الذين يخلفونه على عرش العراق العظيم للتمسك بهذه القوانين والتمس من آلهة السماء والأرض أن نصيب اللعنة كل شخص ينحرف عن طريق العدالة

شهرة حمورابي 


ادى هذا القانون إلى منح الشهرة لحمورابي واصبح قانون حمورابي شاهداً كبيراً للتاريخ السياسي والاجتماعي لمدينة بابل لم يكن مجرد وسيلة لتربية يعود تاريخها إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد وانما لم يصل أي قانون قبله إلى مثل هذه السمعة والانتشار أو تمكن من إدخال مثل هذا العدد الكبير من الإصلاحات
وقد استخدم هذا القانون الذي تمت كتابته بعناية تامة لمدة قرون عديدة كنموذج يحتذى به في مدارس بلاد الرافدين التى تم نسخها مرات كثيرة ونموذجا فيما بعد للتلاميذ
في الدولة الآشورية والدولة البابلية الكلدانية
وقد بلغت فيها اللغة الاكادية غاية الكمال في تركيبات جملها ومفرداتها وقد أدى اسلوب مسلة حمورابي الوجيز وجمال كتابتها إلى تسميتها بالكتابة الفاخرة وكانت تمثل عملاً فنياً رائعاً

الخاتمة

لم يعمل هذا العاهل القوي على حجب مجد سرجون الاكدي أو نارام سين أو شولكي الملوك المشهورين الذين سبقوه ولكنه بقي مع ذلك الحاكم القوي وشمس بابل المشرقة وواحداً من اشهر الوجوه المعروفة في بلاد الرافدين ومرجع هام في مجال القانون والأنظمة والشرائع