أيمن جزيني يكتب: الحريرية والإرث الثقيل
عبّر الحشد الشعبي الذي لاقى الرئيس سعد الحريري عند ضريح والده عن حاجة إلى “حريرية سياسية” ما. لكنّ الحريرية السياسية في لبنان تركت إرثَين: إرثاً وطنيّاً لا كواهل تقدر على حمله في زمننا هذا، وإرثاً ماليّاً لا يدنو منه عاقل في شبه الانهيار الذي نعيش فيه. فمَن للحشد الشعبي ذاك؟
أين يُصرف الحشد الشعبي الذي لاقى الرئيس السابق للحكومة اللبنانية سعد الحريري، عند ضريح والده في ذكرى اغتياله في الرابع عشر من الشهر الجاري؟ وكيف؟
للإجابة عن هذين السؤالين، لا بدّ من الوقوف أوّلاً على الدوافع والأسباب التي جعلت طيفاً واسعاً من أنصار تيار المستقبل يتوافدون على ضريح والده الشهيد، مؤسّس “الحريرية السياسية” في زمن الطائف. لا شكّ أنّ الوفاء للرئيس الراحل الشهيد رفيق الحريري، سيّد الأسباب والدوافع، بمناسبة ومن دون مناسبة. لكنّه كما جرى في الرابع عشر من الشهر الجاري، يتّخذ بعداً سياسياً، أكثر منه إنسانياً.
البعد السياسي في لبنان، بلد المِلل والنِّحل، لا يُقرأ بعيداً عن واقع الطوائف فيه. لا يخفى على أيّ مراقب للوضع السياسي الطائفي في لبنان، عدم اكتمال نصاب الطوائف في الوطن الصغير. فبينما يحضر الموارنة بقضّهم وقضيضهم، والدروز بزعيمهم وحزبهم، والشيعة بالثنائي الحزب وحركة أمل، يبدو أهل السُّنّة بلا زعامة ذات ثقل يوازنون به كفّتَي ميزان السلطة في لبنان. وللأمر بلا شكّ أسباب عديدة، لكنّ السبب الأبرز، ذا البعد الأوسع والدلالة الأبلغ، هو اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، بما يمثّل من ثقل سنّي ووطني وعربي وعالمي، بالإضافة إلى ثقله الاقتصادي طبعاً.
الحريري المخلّص
حين شكّل الرئيس الشهيد رفيق الحريري أولى حكوماته عام 1992، كانت الطائفة السنّيّة تنتظر مخلّصاً ما، بعد اغتيال معظم رجالاتها وإقصاء من بقي منهم عن العمل السياسي، ببصمة سوريّة واضحة وفي ظلّ تغلغل سوريّ في الحياة السياسية اللبنانية. وربّما أبرز المحطّات المؤسّسة لهذا الانتظار والممهّدة للحريري “المخلّص”، اغتيال الرئيس الشهيد رشيد كرامي، وبعده المفتي حسن خالد بالتوازي مع إقصاء الزعيم الوطني صائب سلام عن الحياة السياسية وكذلك تقي الدين الصلح..
ملأ الرئيس الحريري الدنيا وشغل اللبنانيين سُنّةً وغير سُنّة، فكان الزعيم المفصّل على قياس طائفته، بما تمثّل في لبنان وخارجه، من ثقل ودور تاريخيَّين، وهي الطائفة الأمّة.
ولا يزال السؤال عن اغتياله إلى الآن مرتبطاً في ظلّ ما تلاه من أحداث، بدور هذه الطائفة المشاركة في تأسيس وقيام الدولة اللبنانية، مطلع القرن الماضي، ولا يزال يعيد إلى الأذهان اغتيال الرئيس رياض الصلح عام 1951. ولا يزال السؤال الذي تثيره وتطرحه الحياة السياسية اللبنانية، عند كلّ حدث وأزمة، هو: هل اغتيال الحريري الأب اغتيال لشخص أو لطائفة أو لوطن؟
وعليه، لا يمكن فهم الحشد الشعبي عند ضريح الحريري خارج هذا الواقع. فالحشد يعبّر عن حاجة أهل السُّنّة إلى زعيم ينازلون به زعماء الطوائف الأخرى، ويُبعد عنهم الغبن السياسي في كلّ صغيرة وكبيرة، ويعيدهم إلى جنّة السلطة والطوائف والدولة وإن كانت شبه منهارة.
إرثان لسياسة واحدة
بين السببين، وقبلهما وبعدهما، يكمن سبب ثالث يتلخّص أنه لم يتوفّر لأحد من أهل السُّنّة والجماعة المقوّمات ليشغل منصب الزعيم السنّي الشاغر.
إذا كان الأمر هيّناً قبل الحريري الأب، فهو بلا شكّ صعب ودونه عقبات وعوائق كثيرة، بعده. فللحريريّة وجهان أو إرثان ثقيلان:
– الأوّل الحريرية الوطنية، يندر وجود من يمكن أن يحيط به، لِما كان الحريري الأب يمثّله من ثقل عربي ويملكه من علاقات دولية واسعة. وما أحوجنا في اللحظة الراهنة إلى من يحمل هذا الإرث، خصوصاً في ظلّ الحرب على غزة وعلى جنوب لبنان، ويستحضر أو يجترح تفاهماً نيسانيّاً جديداً ويرفد البلد بالمساعدات والمعونات لإعادة بناء ما تمّ تدميره ورأب صدوع كثيرة في الجمهورية اللبنانية والوفاق الوطني في ربوعها.
– الإرث الثاني الحريرية السياسية، أي التفاصيل اليومية الممارسة في السياسة والإدارة للسياسات المالية وغير المالية ، فيُجمع رجالات الطائفة السنّيّة على دفعه بعيداً عنهم، لأنّه شعبيّاً وسياسياً وماليّاً يُخسّر. فلا الزمن الراهن ذهبيّ كسالفه، ولا الخليج اليوم هو خليج الأمس، ولا حلّ سياسيّاً بين العرب وإسرائيل يُعوَّل عليه، ويلوح في الأفق.
مرحلة السلام التي أثمرت “اتفاق أوسلو” بين الفلسطينيين وإسرائيل، و”اتفاق وادي عربة” بين الأردن وإسرائيل، وكادت تبرم خلالها سوريا بقيادة الأسد الأب اتفاق سلام بينها وبين إسرائيل، ولّت إلى غير رجعة.
أمّا داخلياً، فالتوازن الوطني مختلّ لمصلحة حلفاء إيران، وطريق معارضيها إلى العمق العربي شبه مقطوع.
وعليه، لا سوق في ظلّ الغضب العربي من لبنان وعليه، خاصةً السعودي منه، لصرف هذا الحشد أو “تقريشه” في السياسة. فالعرب “المعنيون” يحمّلون سعد الحريري الوريث مسؤولية ما آلت إليه الأمور والموازين في لبنان. فالحريري الابن أبرم تسويات على رمال متحرّكة تبتلع من يقف عليها، في بقعة جغرافيّة لا تثبت فيها حتى الجبال. أبعد من ذلك “من حضر السوق باع واشترى”، كما يقول المثل، لكن ماذا يفعل البعيد عن السوق والنائي بنفسه عنه؟
الحشد الشعبي الذي لاقى الرئيس سعد الحريري عند ضريح والده، حشد وطني، وهو وإن كان يعبّر عن حاجة سنّيّة إلى زعيم، يعبّر أيضاً عن خلل في التركيبة اللبنانية وعن حاجة وطنية ماسّة إلى شريك كان ذات يوم محور السياسة اللبنانية ورافعة الاقتصاد الوطني، وجسراً إلى العرب والعالم والدنيا.
نقلًا عن أساس ميديا..