د.أنمار الدروبي يكتب: لابد من فك الارتباط بين الفكر الديني والدين نفسه؟
ملايين بل مليارات الناس يعيشون على هذا الكوكب بمختلف تياراتهم وطوائفهم وفئاتهم، القسم الأكبر منهم دفعوا ومازالوا يدفعون ثمن الأفكار، البعض دفع حياته، والبعض دفع حريته، دفعوا ثمن أزمة الفكر وتأثيراتها المفجعة.
بلا شك أن الفكر الديني هو فعل بشري خاضع للظروف الاجتماعية والمتغيرات الخاصة بمنتجي هذا الفكر. من هذا المنطلق، فإن الفكر الديني نتاج للظروف الفكرية والاجتماعية لعصرها، ولا يوجد تاريخ للأفكار خارج هذه الظروف. أما الدين فهو حقائق ثابتة مقدسة لا جدال فيها. وبعيدا عن موضوعة تاريخ الفكر الديني، أن ملايين البشر يعدون الأفكار الدينية نصا إلهيًا. إزاء خطورة هذه الظاهرة، وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج وآثار، توضيحاً لطبيعتها وتأصيلاً لجذورها، وتنقيباً عن روافدها وبحثاً عن دوافعها ومثيراتها، تحليلاً لأسبابها للوقوف على مكامن الخطر سعياً للعلاج واتخاذ ما يلزم للحد من خطورتها، أو بالأحرى القضاء عليها. وإذا كانت المؤسسات البحثية في معظم الدول الغربيّة قد قطعت شوطاً كبيراً في هذا المضمار، فإن الساحة العلميّة العربيّة لا تزال خالية من الأبحاث والدراسات العلميّة والقانونيّة الدقيقة التي تتناول هذه الظاهرة بالدراسة والتحليل والتقويم باستثناء بعض الدراسات التي تُعدُّ محاولاتٍ قليلةً ظهرت في الآونة الأخيرة لتمثل تطوراً ملموساً في اتجاه البحث العلميّ العربيّ لهذه الظاهرة. في السياق ذاته واجه موضوع فك الارتباط بين الفكر الديني والدين نفسه، اختلافاتٍ واسعةً وكبيرة في المجال الفقهي والثقافي والاجتماعي، بل وحتى في المجال السياسي والقانوني، في معالجة هذه القضية بصفة حيادية.
ومن منظور سيسيولوجيّ لموضوع الأفكار الدينية، نلحظ أن كثيرا من هذه الأفكار أدت إلى خروج النسق الاجتماعيّ عن حالة التوازن، ونتيجةً لهذا يصبح المجتمع في حالة قلقة وغير مستقرة، في بيئة مهيأة لنشوب التطرف والعنف. بالتالي فإن الفئات التي تنخرط في العنف، هي تلك الجماعات التي تعيش على هذه الأفكار، أي التي تخضع بصورة كاملة لآليات صاحب الفكر.
لقد انتشرت في الثقافة الغربيّة منذ القدم الفكرة الرائجة بأن الدين يسبب العنف، وإذا لم يكن الدين سبباً للعنف فإنه على الأقل عامل يُسهم في العديد من الصراعات في التاريخ الإنسانيّ، وبحسب رأيهم فإنَّ جُل فكرة الغرب هذه اتجاه الدين تأتي بسبب العديد من الصراعات والحروب الدمويّة في التاريخ القديم منذ الحرب المقدسة والحملات الصليبية، ومحاكم التفتيش. وترى الثقافة الغربيّة أن الدين قد شرعن لاضطهاد الفقراء والنساء. ونتيجةً لهذا فقد أعدَّ الغرب الدينَ متورّطاً في المحافظة على البنية الاجتماعيّة للعنف. ومع بدايات القرن الحادي والعشرين كان استعداد رجال الدين لمباركة أيِّ حرب تقوم بها الولايات المتحدة الأمريكيّة يمثل دليلاً آخر على نزوع الدين نحو العنف، بالإضافة إلى ذلك الإرهاب الذي تمارسه بعض الفصائل المسلحة والحركات الراديكاليّة والأصوليون المسلمون، عندما أقحمت هذه التيارات الدين أيديولوجيا بالسياسة. بلا شك فنحن أمام مجموعة كبيرة من الأيديولوجيات والممارسات والمؤسسات: الإسلام والماركسيّة والرأسماليّة والمسيحية والقوميّة والكونفوشية واليهودية، والدولة القوميّة والليبرالية والعلمانية والهندوسية وغيرها، بيد أن جميعها يُمكن أن تدعم العنف تحت ظروف محددة (الأفكار).
وتأسيساً لما تقدم فإن أسطورة العنف الدينيّ هي الفكرة التي تقول" إن الدين بما هو سمة عابرة للثقافة والتاريخ والحياة الإنسانيّة، مختلف جوهريًّا عن السمات العلمانية كالسياسة والاقتصاد، لأنه يميل ميلاً خاصًّا وخطراً نحو العنف، ومن ثّم لا بدّ من كبحه ومنعه من الوصول إلى السلطة العامة"(من كتاب أسطورة العنف الديني: الايديولوجيا العلمانية وجذور الصراع الحديث، الكاتب وليام كافانو ص7)
ولكن الأسطورة هذه ليست قائمة على حقائق امبريقية عملية، وإنما هي بناء أيديولوجيٌّ يشرعن أنواعاً معينة من السلطة، فقضية أن الدين يمتلك نزوعاً خاصًّا نحو العنف، فهي تخدم أهدافاً محددة لمن يروج لها في الغرب. فعلى المستوى المحليّ استُغلت هذه الأسطورة في تهميش أنواع معينة من الخطابات ذات الطابع الدينيّ. وعلى مستوى السياسة الخارجيّة والعَلاقات الدوليّة تساعد في تعزيز بعض المواقف الغربيّة وتسويغ سياستها في العالم غير الغربيّ، وتحديداً في العالم الإسلاميّ الذي يقع جوهر الخلاف بينه وبين الغرب في رفضه لإقصاء الدين من المجال السياسيّ.
الجدير بالذكر، أن الأفكار ليست ظاهرة جديدة خاصةً في العالم المعاصر، بل هي ظاهرة قديمة قِدم العالم الذي نعيش فيه، لذلك ترى حضور الأفكار في كثير من الخرافات والأساطير القديمة. بيد أن هذه ظاهرة تمسنا في حياتنا اليوميّة، لهذا نجد العالم بأسره محاطاً واقعيًّا بظاهرة الأفكار بل غارق فيها. لقد تمكن الفكر أيا كانت اتجاهاته وميوله، من أن يفرض نفسه موضوعيًّا في الخطاب اليوميّ لعصرنا الراهن، وانتشر في كل مظاهر حياتنا، وعلى مستويات عالمية، لاسيما أن العَلاقات الدوليّة وبسبب الأفكار وأزمة الفكر قد أصبح قسم كبير منها يتسم بعلاقات عنيفة وعدوانية تتجسد في شكل حروب وحشية متواصلة وقاسية، تحولت في أحيان كثيرة إلى حرب عصابات لا تُبقى ولا تذر، يمارس فيها الإرهاب السياسيّ والاضطهاد الأيديولوجيّ.
لقد أكد كثير من الباحثين إن قدم ظاهرة العنف سببها الفكر، بالرغم من اختلاف أشكاله وتنوُّع تجلياته في المجتمعات، وكان لفلاسفة العقد الاجتماعيّ وخاصة (هوبز) رأيٌ في موضوع العنف، فيرى هوبز أن حالة الطبيعة هي حالة صراع وحرب الكل ضد الكل، وجعل من العنف عنصراً أساسيًّا في النظريّة السياسيّة.
وفي سياق نقده لنظرية العقد الاجتماعيّ يرى الفيلسوف الاقتصادي والمؤرخ الأسكتلندي (ديفيد هيوم) أن القوة والحرب هي ممارسة منظمة للعنف الجماعيّ، وإن المنتصرين والغزاة هم الذين تمكنوا في لحظات تاريخيّة معينة من إخضاع مجموعات بشرية لسلطتهم، وكونوا حكومات، وأقاموا دولاً، ذلك هو الواقع الذي تثبته الحقائق التاريخيّة. أما (هيجل) فقد أخذ العنف لديه شكله الأقصى، فأعطى الحرب قيمة أخلاقية وروحية، والحرب، من وجهة نظره، هي التجرِبة التي يستطيع فيها الإنسان تجاوز طبيعته الحيوانية ونفيها من خلال مجابهة الموت.
بقلم: أستاذ الفكر السياسي
الدكتور: أنمار نزار الدروبي