د. شهيناز حفصي تكتب: درنة ذاكرة تحت الركام
عجيب هو أمر الإنسان يمحو ذاكرة ليسترجعها من غير روح.
درنة في الواجهة الآن، طمرت الكارثة الطبيعية ذاكرتها، إعادة بناء مبانيها الأثرية هدفه صون الهوية وإعادة الصورة البصرية والعمرانية، لكن قد يكون هذا التدخل مضللا للتاريخ رغم تطور التكنولوجيا وتقدم الرؤية العلمية في طرح بدائل جديدة.
درنة مدينة جبلية ساحلية شرقية تقع على خط طول 32,45 وخط عرض 22,40 تعتنق ملامح الذاكرة رغم كل الرجات التى أصابتها، تأسست المدينة على يد الاغريق وكانت تعرف باسم إيراسا اشتهرت بجمالها وعذوبة مياهها التى تتدفق اليها عبر عين البلاد وعين وبمنصور مدينة تغنى الشعراء بجمال خضرتها، غزارة مياهها وكرم أهلها.
درنة تعاقبت عليها الحضارات من إغريق ورمان إلى الحضارة الاسلامية، فتميزت شوارعها بظلال الياسمين وبالصبغة الاندلسية ,بمسجد عتيق رشمت فيه اصالة هندسة وكنيسة حولت الى دار ثقافة ,الساحة الحمراء، سوق النور ومعالم اخرى تروي مختلف التبادلات والأجناس التي زارت المدينة، فموقعها الإستراتيجي جعل منها مركزا ثقافيا تجاري وحتى اداري فكانت مطمع الغزات وساحة حروب.
في هذا العصر لم تعد صنفونية الازقة الضيقة ،المباني العتيقة ورائحة الخبز التقليدي يؤثر في الاصالة والانتماء فكل حاول بطريقة او اخرى محو جزء وراء جزء من روح درنة,لم تعد الذاكرة تتغنى بدرنة.
فهي ذبحت من طرف الإنسان من خلال هجرته وترك المباني العتيقة التي تحمل اجمل صور الذاكرة دون صيانة او عناية جهلا منه بالقيمة الانسانية التي يخزنها المكان , التدخل العشوائي والغير المدروس على مبانيها وعمرانها جعل منها نسيجا عمرانيا غير متجانس أو متناغم، كما لا ننسى الحرب التي كان لها دور فعال في هذا الاغتيال، ليكمل العاشر سبتمبر ما بدأه الإنسان فبسب إعصار دنيال جرفت أحياء بأكملها وغمرت بالطين، لتتحول الشوارع إلى مناطق مدمرة ومهجورة تفوح منها رائحة الموت.
عروس برقة او درة المتوسط اليوم تستغيث وتبحث عن احياء لذاكرتها وتراثها المادي عبر تدخل محلي وأجنبي لإعادة بناء ما بدؤه البشر وأنهاه الاعصار ,فالكثير من المختصين وضعوا خطط لإعادة اعمارها وترميم مبانيها التاريخية والتراثية كالمسجد العتيق وغيره من المباني التي تحمل الطابع التراثي لإعادتها الى الشكل الاصلي والحفاظ على العناصر المعمارية المكونة لها، لكن ما يطرح التساؤل هل هذا الاعمار الذي هو القائم على التقنيات الحديثة وعلى مواد حديثة سيرجع روح درنة المسلوبة؟
يُعد إعادة بناء المباني الأثرية هو من أدق العمليات لأنها تعتمد على دراسات عميقة ووثائق دقيقة لشكل المبنى وطرازه وبطريقة مفصلة لتحقيق هدف صون الهوية وإعادة الصورة البصرية والعمرانية لكن قد يكون هذا التدخل في بعض الأحيان مضللا للتاريخ رغم التكنولوجيا وتقدم العلم.
ما الغاية من صرف العديد من المليارات على مبنى تاريخي تهدم بأكمله فرمزية المكان ورمزية البناء وإعادة احياءه لا تكفي، لأن المبنى التراثي هو مزيج مادي وروحاني، فغياب جزء يلغي الآخر بأكمله، قد يجسد في مجيز بين لمسة إنسان راحل، صلواته، مناجاته في عتق مسجد أو كنيسة، فهي محاولات جافة تبحث عن ربح ودفع عجلة الاقتصاد بأي ثمن حتى لو كانت الذاكرة ويبقى السؤال دائما يطرح نفسه لماذا نلجأ الى اعادة بناء مباني تاريخيه وصرف الملايين؟ لماذا لا نلجأ الى رقمنه كل ما هو ذاكرة، وخلق متاحف الكترونية تتماشى مع عصرنا هذا؟.